Site icon IMLebanon

حلب بين قمة سان بطرسبرغ ولقاء المعارضة مع أوروبا

 

الرئيس باراك أوباما لا يثق بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. لكنه يصر على إبرام اتفاق عسكري معه! لذلك لا يعنيه من الاتفاق سوى التعجيل في تحقيق نصر كبير على «داعش» وقوى الإرهاب الأخرى. ولا يشغله أي هدف آخر عن ذلك. لا يعنيه قيام المرحلة الانتقالية لتسوية الأزمة السورية. ولا يعنيه مصير المعارضة. والواقع أن ثمة رغبة روسية مماثلة في إبرام الاتفاق. وقد يتوصلان إليه من دون أن يؤدي ذلك إلى فتح طريق التسوية. فالعقدة ليست في إصرار واشنطن على حق الفيتو على بعض أهداف الغارات الروسية ورفض موسكو ذلك. هذه عقبة تمكن إزالتها. ما تريده الإدارة هو فك الحصار عن حلب وأهلها ووقف الهجوم عليها. لأن استعادة النظام هذه المدينة تعني هزيمة كاملة للفصائل المقاتلة والمعارضة عموماً. فلا يبقى أي معنى للتفاوض. ولا يبقى بيد الولايات المتحدة أي ورقة ضغط لتحقيق الحد الأدنى من التغيير المطلوب. خصوصاً أن غيابها الميداني الطويل لم يوفر لها سابقاً ولا يوفر لها الآن وزناً بمواجهة التدخلين الروسي والإيراني. إن استعادة حلب ستجر إلى استعادة إدلب أيضاً. ويقود ذلك إلى تثبيت الرئيس بشار الأسد، وطي صفحة العملية السياسية. وهو ما يعزز موقف موسكو في أي مفاوضات. في مقابل ذلك، باتت روسيا على قناعة تامة بأن الإدارة الحالية ليست مستعدة للبحث في ما يتجاوز الوضع العسكري. أي أنها لا تبدي أي مرونة في نقل الحوار إلى ملفات أخرى على رأسها البحث في رفع الحصار عنها وإسقاط العقوبات. لذلك يبدي زعيم الكرملين تشدداً وإصراراً على التمسك بالورقة السورية. ويرفض إبرام أي اتفاق مع أولئك الذين «يخوضون حرباً اقتصادية» على بلاده، ما لم يعبروا عن استعدادهم لمراجعة مواقفهم في ملفات كثيرة تشكل موضع خلاف.

من هنا تتخذ معركة حلب صفة استثنائية ومصيرية. روسيا قد لا ترغب مرحلياً في أكثر من حصارها لتظل ورقة مساومة وضغط. في حين يهدف النظام وحليفه الإيراني والميليشيات المقاتلة إلى جانبه إلى استعادة أكبر مدينة في البلاد (تشكل محافظة حلب ربع سكان سورية) والعاصمة الاقتصادية. لأن ذلك سيفتح أمامه الطريق إلى مواصلة حربه حتى إقفال الحدود الشمالية مع تركيا. فيحقق بذلك هدفين كبيرين: يقطع كل خطوط الإمداد للفصائل المقاتلة في الشمال. ويكبل يد تركيا أيضاً. أما المعارضة فتخوض حرب حياة أو موت فعلاً. لأنها تعي أن لا شيء يعوضها خسارتها العاصمة الشمالية. سيضيق عليها الخناق. فلا طرق إمداد وسبل تواصل مع الخارج. ولا حلفاء وأصدقاء تمكن استعادة ثقتهم بقوتها وقدرتها على تحقيق أي تقدم. ولا شيء بعد ذلك يمكن أن يرغم النظام على تقديم أي تنازل أو التسليم بالرحيل. ومن هنا هذا الحشد الواسع لفصائل المعارضة المختلفة من «الجيش الحر» إلى القوى الإسلامية الأخرى من «جيش الفتح» إلى «فيلق الشام» وغيرهما من قوات لمعركة تعتبر مصيرية لمنع سقوط حلب.

ضجيج معركة حلب ترافقه تحركات سياسية مصيرية هي الأخرى. ليس أبرزها التحركات الحثيثة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل إطلاق محادثات «جنيف 3». فلا المعارضة مستعدة لتقديم ما رفضت تقديمه في الجولة السابقة من المفاوضات، أياً كانت المفاجآت الميدانية. وهي قد لا تحضر في ظل هذه الحرب المفتوحة بمشاركة فعالة من الطيران الروسي. ولا النظام يبدي مرونة في ظل الدعم الكبير الذي يتلقاه من حلفائه، وفي ظل تفاهم حقيقي بين موسكو وواشنطن. وليس أبرزها أيضاً المساومات الأميركية – الروسية التي لن تثمر، إذ إن الكرملين الذي لم يعد يأمل بتحقيق تقدم فعلي مع إدارة الرئيس أوباما، يسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض شمال سورية استعداداً للتوجه نحو الإدارة الأميركية المقبلة. ثمة محطتان قد تبدلان المشهد: مآل القمة التركية – الروسية الراهنة، ثم الاجتماع الذي تعد له المعارضة مع دول أوروبية وعربية في لندن آخر هذا الشهر.

ثمة مبالغة في الحديث عن شراكة استراتيجية بين تركيا وروسيا تحل محل علاقة الأولى بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لن يكون الأمر بهذه السهولة ولا بهذه السرعة. ثمة مبالغة في رؤية انقلاب من هذا النوع في قمة الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ، مهما بلغ غضب «حزب العدالة والتنمية» وقوى أخرى من موقف واشنطن حيال المحاولة الانقلابية، وعدم تجاوبها في تسليم أنقرة المتهم بالمحاولة الداعية الإسلامي فتح الله غولن. ومهما بلغ الغضب التركي من مواقف دول أوروبية تحذر حكومة علي بن يلدريم من المغالاة في إجراءاتها ضد آلاف من أنصار الداعية المقيم في بنسلفانيا وغيرهم، ومن التضييق على الحريات، وإعادة العمل بقانون الإعدام، ومن الطريقة التي يتم التعامل بها مع قادة الجيش والأمن، ومن سياسة «إعادة تأهيل» المؤسسة العسكرية… لا يمكن في هذا اللقاء أن يسوي البلدان خلافاتهما التي لا تقتصر على سورية فحسب، فهناك قضية القرم وقبرص والصراع بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل الأوضاع في آسيا الوسطى.

موسكو أعلنت صراحة أن مستقبل العلاقات مع أنقرة رهن بموقف الأخيرة من الأزمة في سورية. فهل يسلم أردوغان بمشروع روسيا في سورية من دون أي ثمن؟ أو هل يطوي صفحة مواقفه في السنوات الخمس الأخيرة من هذه الأزمة ويقبل بإعادة تأهيل النظام؟ ماذا يبقى من صدقيته؟ صحيح أنه لا يزال قلقاً جداً من الأوضاع الداخلية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. لكن فشل الانقلاب عزز موقعه وشعبيته. وهو يستغل هذه الفرصة إلى أقصى حد بإقصاء كل خصومه ومنافسيه وإضعافهم. فهل يجازف بإضعاف موقفه بالتخلي عن المعارضة السورية، أم يكتفي بالتفاهم مع موسكو على محاربة الإرهاب؟ هل يجازف في حمأة الصراع على سورية أن يسقط هذا البلد بيد إيران؟ أم أنه يبدي استعداداً للتعاون مع مضيفه غداً لتعزيز موقعيهما بمواجهة النفوذ الإيراني؟

هناك عناصر أخرى تعوق انقلاباً جذرياً لأردوغان على مواقفه السابقة. الاعتذار من موسكو والسعي إلى مصالحتها كانت وراءهما الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها تركيا نتيجة المقاطعة الروسية. والأهم من ذلك أيضاً شعور تركيا بأنها باتت محاصرة داخل حدودها ولم تعد لها اليد الفاعلة في الأزمة السورية. خصوصاً أن لكل من الكرملين وواشنطن أجندة مختلفة لم تقم أي اعتبار لحسابات تركيا ومصالحها. وقدما دعماً واسعاً إلى حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري». وهو ما ضاعف قلق أردوغان من صعود الكرد وتبنيهم مشروع الفيديرالية لسورية وانعكاس ذلك على الأوضاع الداخلية في بلاده. فكيف سيبدد مضيفه هذا القلق؟ صحيح أن موسكو تربط تحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية بموقفها من الأزمة السورية وسبل تسويتها سياسياً. لكنها لم تنتظر تحولاً من هذا النوع. بل رحبت سريعاً بعودة العلاقات الثنائية لأسباب اقتصادية وسياسية أيضاً. فهي تراهن على ابتعاد جارتها الجنوبية عن أوروبا والولايات المتحدة. وذاكرة الروس لا تزال حية. لا يغيب عن بالهم أن هذه الجارة كانت على الدوام ولا تزال مبدئياً ركناً من أركان «الناتو». وهي إلى اليوم تستضيف أجزاء من «الدرع الصاروخية» التي يعتبرون أن الحلف الأطلسي يقيمها بهدف تطويق بلادهم. ولا يمكن الرئيس بوتين أن يفــــوت فرصة استجابة بعض طلبات نظــيره من أجل تعميق خلافاته مع أوروبا والولايات المتحدة وزعزعة استـــراتيجية الحلف. وقد يكون مستــعداً لأن يقايضه بمواقف محددة فـــي سورية ليس مستعداً لتقديمها إلى الرئيس الأميركي. وهو يعلم أن حكومة حزب العدالة قدمت وتقدم دعماً إلى المعارضة في معركة حلب.

الحدث الآخـــر الذي قـــد يبدل في المشهد الســـوري، اللقـــاء الـــذي تعد له المعارضــة في لندن آخـر هذا الشهر. من المقـــرر أن تجتمـــع الهيئة العليا للمفاوضات: «الائتلاف الوطني»، «هيئة التنسيق» وممثلو كبرى الفصائل العسكرية المقاتلة، من أجل إطلاق «رؤيتها السياسية» الواحدة، بحضـــور عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين والعرب ووزيري الخــارجية الأميركي والتركي. المهم فــي «الرؤية» أنها ستخاطب أوروبا وغيرها من المهتمين بمستقبل سورية: الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، التمسك بوحدة الأرض والشعب، والحــرص على حقوق الأقليات الدينية والعــرقية، والدعوة إلى خروج جميع المسلحين الأجانب من سورية، ونبذ التشدد الديني والإرهاب ومحاربته… وقبل كل ذلك وبعده التمسك بالانتقال السياسي الذي نص عليه بيان جنيف الأول. ليست «الرؤية» وحدها ما يضفي أهمية على هذا اللقاء، بل رغبة المعارضة في ملاقاة استياء أوروبا من الثنائي الروسي – الأميركي الذي تعي أنه خطف عملياً إدارة البحث عن تسوية في سورية، من دون أي حساب للقارة العجوز ومصالحها. علماً أنها تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الأزمة السورية. وتعيش مجتمعاتها على وقع الإرهاب الضارب في عواصمها ومدنها، وتعاني من تدفق اللاجئين ومــا يفرضون من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية. فهل تنجح المعارضة والقارة العجوز بعد لقاء لندن في رسم مشهد جديد يفرض على اللاعبين الآخرين إعادة النظر في حساباتهم وسياساتهم؟