هناك على أرض حلب، تركوا أرزاقهم وأحلامهم تماماً كما تركوا أفراحهم وأحزانهم. في تلك الأرض لهم أحبّة دُفنوا فيها وأمل صغير وبسيط يسرّ لهم أنهم سيعودون ذات يوم اليها. بالأمس نزح الآلاف عنها لكنهم رفضوا النظر خلفهم كي لا تتبدّد أحلامهم وتنهزم أمام حقيقة مشهد مدينتهم وهي تُعانق الأرض بناسها ومصانعها وآثارها وبيوتها. كي لايروا الأشلاء والدماء كيف احتلت الأرصفة، وربما رفضوا الإصغاء إلى أنين جرحى حتّى لا تُصيبهم تهمة الإلتفاتة إلى الوراء، وعندها سيُحاكمون على النيّات.
لم يأت الموت أهالي حلب بشكل مُفاجئ، بل هم توقعوه منذ الإعلان عن هدنة الأربع والعشرين ساعة الشهر الماضي. يومها شعر سُكّان المدينة المنكوبة بأن السماء ستُمطر عليهم في وقت قريب، حقد نظام فعل كل شيء في سبيل الإبقاء على نهجه الفاشي الذي يمتد لسنوات طويلة مليئة بالحقد والإجرام، لكن الجديد هذه المرة، أن الموت حاصرهم من البر والجو والبحر ومنع عنهم الهواء كما الدواء والغذاء. موت لم يشفع لأطفال رُضّع ولم يرحم دموع الأيتام ولا دعوات الثكالى، فقد أبى «نيرون سوريا« إلا أن يُطفئ نار الثورة التي احاطته منذ العام 2011، إلا بأجساد السوريين.
خلال الأيام القليلة الماضية، نفذ الطيران الحربي الأسدي، عشرات الغارات في أكثر من منطقة في حلب مُخلّفاً وراءه مئات الضحايا في صفوف المدنيين ضمن المناطق المُحاصرة على يد جيش النظام و»حزب الله» والميليشيات الإيرانية والعراقية، بالإضافة إلى الآلاف الذين هُجّروا قسراً عن المدينة كمقدمة للوصول إلى مُخطط «سوريا المفيدة» الذي يعني تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وجعل جزء منها تحت النفوذ الإيراني الذي يُدرك بدوره جيّداً، بأن النظام قد فقد سيطرته بشكل كامل على بلاده. وما جرى سابقاً من عمليات تطهير مذهبي كانت قد بدأت من «القصير» و»الزبداني» و»مضايا»، يُضاف إليها ما يجري اليوم في حلب، وغيرها، إنما يصب في إتجاه تنفيذ أو إنجاز هذا السيناريو.
أمس، فقط، أعلن الدفاع المدني أو ما يُعرف بـ»أصحاب القبعات البيضاء» استشهاد أكثر من 25 مدنياً وجرح العشرات معظمهم من النساء والأطفال، إثر قصف لطائرات النظام الحربية بالصواريخ المحمّلة بالمظلات استهدف حي «باب النيرب» بمدينة «حلب«. والمؤلم في هذا الإستهداف، أنه جاء خلال توجه المدنيين من الأحياء الشرقية المحاصرة، إلى الأحياء الغربية الخاضعة لسيطرة النظام سيراً على الأقدام، ما أسفر عن وقوع المجزرة. وخرجت صرخات الأهالي إلى العلن، حيث أكدوا أن طائرات النظام وكذلك الروسية، تناوبت على استهدافهم في احياء «الشعّار» و»القاطرجي» والمواصلات القديمة و»الميسر» وضهرة عواد» وأحياء «الصاخور» ومساكن «هنانو» بالصواريخ الفراغية والمحملة بالمظلات والقنابل العنقودية وغاز «الكلور» السام. كل هذه الغارات حصلت بالتزامن مع اقتحام قوات الأسد وحلفائه وتنظيم «وحدات الحماية» الكردي لأحياء المدينة.
لا وقت يُضيّعه النظام السوري وحلفاؤه في حلب، فالوقت هناك للقتل والتنكيل والتهجير فقط، إذ لا تمر ساعة إلا ويرتكب هذا الحلف مجزرة بحق الأبرياء وعادة ما يكون المدنيون هم ضحية المخططات والحروب العبثية التي تقودها الدول الكبيرة وأنظمة القهر والإستبداد. ومن هذا المنطلق، فإن العيادات الطبية في شرقي حلب ستغلق ابوابها خلال ايام، ولن تقدم خدمات للمرضى كون الأدوية والمحروقات اصبحت نادرة، وتواجد المرضى في العيادات يُشبه حالات الانتحار. وفي الشق الوحشي الذي توصف فيه عصابات الأسد وحلفائها، بدأت ترد بالأمس، معلومات من داخل حلب، عن عمليات نهب وسرقة في ممتلكات الاهالي، بالإضافة إلى عمليات القتل والإغتصاب واختفاء العديد من الشُبّان الفارين منها.
وفي وقت كانت تُطالب الأمم المتحدة بوضع حد للقصف العشوائي على شرقي مدينة حلب وحماية المدنيين وتمكين إدخال المساعدات الإنسانية، محذرة من أن تلك المنطقة أصبحت حاليا «بلا طعام«. أكد منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية «ستيف أوبراين» أمس، أن «نحو 16 ألف مدني في حلب نزحوا جراء الهجمات المكثّفة على القسم الشرقي المحاصر من المدينة، والخاضع لسيطرة الفصائل العسكرية«. وأضاف: «لا مستشفيات عاملة في حلب المحاصرة، ومخزون الطعام أوشك على النفاد«، مشيراً إلى أنه «من المرجّح أن يفر آلاف المدنيين من منازلهم، إذا استمر القتال في الأيام القادمة».
بالنسبة إلى «حزب الله»، بشكل خاص، فان عملية تغيير المعالم الجغرافية لا تزال سياسة مستمرة ومُعتمدة من قبله،
فبعد مرور اكثر من عام على قيامه بإحراق البساتين الزراعية في «الزبداني» و»مضايا» وتغيير جغرافية الأرض عبر تقطيع اوصال السهل الى قطاعات عن طريق رفع سواتر ترابية، ها هو يُعيد رفع تلك السواتر واحداث سواتر جديدة بالإضافة لتدعيم النقاط العسكرية الموجود فيها. لكن بعد ان «ينتصر» الحزب وحلفه وبعد أن تُصبح حلب وغيرها من المدن السورية، على شاكلة «القصير»، هل ستنتهي الحرب بالنسبة اليه؟، أم هناك جبهة أخرى سيُشعلها وسيُرحّل عنها أهلها، فيختار لها شُبّاناً جدداً مستعدين للموت ولو تحت شعارات جديدة.
هل سمع «حزب الله»… بالأمس، صُراخ الوالدة التي كانت تنتحب اطفالها الأربعة بعد مقتلهم بغارة في حلب؟. الوالدة رفضت ترك احد أطفالها وأصرّت على احتضانه. ربما هو اصغرهم أو أوّل من التقطته يداها. أحد أبناء الحي حاول أخذه منها لكنّها رفضت وأصرت على عدم تركه. قال لها: «دعيني آخذه إلى المشفى فهو لا زال يتنفّس«.
اقتنعت الوالدة بكلام الرجل فعلّه يُعيد لها جزءاً من الحياة، لكن الحقيقة أن حياتها انتهت باستشهاد «ملائكتها» الأربعة مرّة واحدة.