IMLebanon

حلب «حصان أردوغان» إلى البازار الأميركي – الإيراني!

بدأت معركة حلب. والأيام المقبلة ستنبئ بمآلها. هل تصل إلى نهاياتها؟ هل تلقى سريعاً مصير إدلب وجسر الشغور؟ سقوط الموقعين الأخيرين بيد الفصائل الإسلامية، أو «جيش الفتح»، كان تطوراً ميدانياً كبيراً. لكنه لم يترجم سياسياً لمصلحة المعارضة أو «الائتلاف الوطني». أي أنه لم يهز أركان النظام أو يدفع نحو إعادة تحريك الحل السياسي. ولم يترجم لمصلحة الرعاة الإقليميين، خصوصاً تركيا، بمقدار ما أثار مخاوف أصدقاء دمشق وخصومها على السواء. لم ترق لهؤلاء هذه الاندفاعة التي كادت تغير قواعد الاشتباك واللعبة السياسية الإقليمية والدولية. فالكل أبدى حرصاً على ألا يتكرر مثل هذه العملية. لذلك، هدأ الضجيج الذي علا قبل أيام متوعداً بمعركة حاسمة لتصفية وجود النظام في درعا جنوباً. كأن الضوء الأخضر لم يشعل. لن يُسمح بالتقدم نحو العاصمة من المنطقة الجنوبية التي شكلت تاريخياً مقتلاً للنظام. ثمة قرار «من فوق» حال دون مواصلة المعركة بالزخم المطلوب لتحقيق اختراق مماثل لما حصل في الشمال. وهذه ليست المرة الأولى التي يحد فيها اللاعبون الكبار من الخارج من اندفاعة غير محسوبة تدفعهم إلى تغيير حساباتهم.

معركة إدلب أربكت كثيرين كانوا ولا يزالون، منذ اليوم الأول لاندلاع الأزمة في سورية، يسألون عن «اليوم التالي» لسقوط النظام. ومن يكون البديل. وماذا عن مصير الأقليات. والحد من اندفاع الفصائل المعارضة في جبهة الجنوب ليس الحدث الوحيد من نوعه. حصلت سابقاً في شمال البلاد تجارب مماثلة مُنعت فيها المعارضة من استكمال معركتها. بالضغط والتهديد بقطع المعونات والتسليح وما شابه. و «معركة الجنوب» لم يتوقف الحديث عنها طوال الشهور السابقة، خصوصاً بعد تلقي مقاتلين في تلك المنطقة تدريبات خاصة أشرف عليها الأميركيون وغيرهم. وانتظمت لهم هيكلية عسكرية شبه نظامية استوفت الكثير من الشروط المطلوبة. وثمة من يشير إلى أن «جبهة الجنوب» التي يديرها «الجيش الحر» كان مقرراً أن تنتهي على مشارف دمشق في السابع من نيسان (أبريل) الماضي، الذكرى الرسمية لقيام حزب البعث. وكان الهدف التلويح للممسكين بمفاتيح الحل السياسي وأولئك المصرين على الحسم العسكري، بأن النظام بات على مرمى حجر. ويجب التحرك سريعاً لترتيب رحيله وصولاً إلى التغيير المطلوب. قبل ذلك الموعد بأسابيع، أي مطالع السنة، استنفر «الحرس الثوري» الإيراني عدته وعديده في تلك الجبهة لمنع مثل هذا الاختراق الكبير. وحصل شيء مماثل في الجبهة الشمالية وحيل دون تقدم المعارضة خلف «خطوط» محرمة نحو الساحل أو نحو مواقع حساسة يمكن أن تقوض «قواعد اللعبة» بين الأطراف الخارجية أولاً.

معركة حلب هل تحاكي ما يجري في الجبهة الجنوبية أم تكون تكراراً لإدلب وجسر الشغور، إنما هذه المرة بمفاعيل لا يمكن تجاهلها؟ ما حققه «جيش الفتح» شمال سورية حتى الآن كان بدعم واضح من تركيا التي هي نفسها تدخلت أكثر من مرة للحؤول دون إحكام النظام الطوق حول العاصمة الشمالية. لم تسمح ولن تسمح بتطويق المعارضة وقطع خطوط تواصلها مع الحدود والمعابر التركية. الدوائر المعنية في أنقرة اعتبرت وتعتبر أن إخراج المقاتلين من المدينة، أو سقوطها كاملة في يد نظام الرئيس بشار الأسد سقوطاً لنظام رجب طيب أردوغان! لذلك، لم يتهاون الأخير في ترسيخ هذا الواقع على الأرض. لكن هذا الالتزام لم يصل إلى حد الخروج على الخطوط التي رسمتها الإدارة الأميركية لسياستها حيال الأزمة السورية. أي أن موقف الرئيس التركي كان ولا يزال دفاعياً. هدد وتوعد في مناسبات لا تحصى. لكنه لم ينفذ واحدة من تهديداته. تماماً كما فعل في معاركه مع إسرائيل حيال حصار غزة. حملات وخطابات نارية بلا ترجمة على الأرض.

لم يطرأ على المشهد السياسي ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تركيا انتقلت من موقعها الدفاعي في الأزمة السورية إلى موقع أكثر هجومية. أو أنها تمردت على بيت الطاعة الأميركي. بخلاف ذلك، إن التطورات الأخيرة أضافت إلى موقف الرئيس أردوغان وموقعه مزيداً من الضعف. بدءاً من نتائج الانتخابات البرلمانية التي لم تعطِ حزبه «العدالة والتنمية» ما كان له طوال عقد من حرية حركة شبه مطلقة، إلى التهديد المتصاعد الذي بات يشكله أكراد سورية في سعيهم إلى ما يشبه الحكم الذاتي لمناطقهم شرق سورية وشمالها. ويدرك الرئيس التركي، على رغم هذا الحشد الكبير من القوات على الحدود الجنوبية للبلاد، أن الانخراط الميداني المباشر في الحرب السورية مجلبة لمتاعب قاتلة في الداخل التركي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. مثلما هو بداية غرق أنقرة في المستنقع السوري. وبالطبع ليس هذا ما يريده أردوغان. وقد عبر رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو بوضوح أن بلاده لا تنوي، على رغم الاستعدادات العسكرية الكبيرة، أن تشن عملية عسكرية في سورية «بين ليلة وضحاها». نهجت تركيا أسلوب إيران تماماً التي اعتمدت وتعتمد في تدخلها في شؤون المنطقة على أذرعها المحلية في هذا البلد وذاك. وأنقرة تعتمد الأسلوب نفسه بالاعتماد على فصائل إسلامية كثيرة في سورية، وحتى يمكنها غض الطرف عن حركة «النصرة» و «داعش»، إذا كان لتحرك هذين التنظيمين أن يخدم أهدافها في محاربة نظام الرئيس الأسد واحتواء الطموحات الكردية… شرط ألا يقتربا من حدودها إلى ما بعد الحدود المرسومة!

لكن تركيا التي أزعجها أن معركة إدلب كانت كمن ضرب عصا بالماء، يمكن أن تدفع بـ «الفاتحين» نحو إسقاط العاصمة الشمالية. تضرب بالعصا هذه المرة هدفين: إيران التي سبق أن حذرتها من أي تدخل ميداني. والولايات المتحدة التي لم تغفر لها توفير الأسباب التي أتاحت مقداراً من المكاسب لفصائل الشمال الإسلامية. ولم تغفر لها سعيها إلى تسويق هذه الفصائل بديلاً جاهزاً وقوياً على الأرض لقتال «داعش» والنظام في دمشق أيضاً. تشعر أنقرة، كما العواصم العربية الأخرى المعنية، بالقلق من تهميشها وتقليص دورها في العلاقة التي تبنيها واشنطن مع طهران على حساب جميع أهل المنطقة، باستثناء إسرائيل بالطبع. ولا يمكنها السكوت والاكتفاء بالمراقبة. لا تريد خسران كل ما حلمت به وعملت له في السنوات العشر الأخيرة لـ «تسفير» مشاكلها مع أهل الإقليم، والعودة المظفرة إلى قلبه وظهرانيه. لذلك، قد تجرب في معركة حلب تحقيق ما فشلت في تحقيقه إثر معركة إدلب وجسر الشغور، بل منذ قيام التحالف الدولي لمحاربة «دولة الخلافة». فقد دخلت التحالف لكنها لم تنخرط في العمليات العسكرية. وضعت جملة من الشروط على رأسها كما هو معروف ضرب التنظيم الإرهابي ونظام الرئيس الأسد معاً، والحد من غلواء الكرد واندفاع «وحدات حماية الشعب» نحو كيان ذاتي يزيد في تعقيد القضية الكردية التي تقض مضاجعها.

تجهد أنقرة للعودة إلى قلب المشهد السياسي فلا يقتصر الأمر على منافسيها الكبار في الإقليم، من إسرائيل إلى إيران. تريد حصة توازي حجمها ودورها وموقعها السياسي والجغرافي، بل موقعها الديني السنّي إذا كان متعذراً على العرب المنشغلين بأزماتهم والغارقين في فوضى عارمة أن يحصلوا على كرسي يترجم حجمهم الديموغرافي والاقتصادي. يضيرها أن تكون مستبعدة عما ترسمه واشنطن وبعض شركائها مع طهران. تريد أن تدخل البازار الذي يقترب من ذروته مع اقتراب المحادثات النووية بين إيران والدول الست الكبرى من نهاياتها. وربما راهن الرئيس أردوغان على حلب «حصان طروادة» للدخول إلى صلب اللعبة السياسية الكبرى. فهل ينجح «فاتحوه» في فتح أبواب حلب فيفتح له باب واشنطن… وطهران أيضاً؟