IMLebanon

حلب تحترق

يبدو من الجلي بمكان أن بشار الأسد ماض حتى النهاية في تنفيذ مخططه المرسوم الذي يتلخص بالاستفادة القصوى الآن من الهدنة المبدئية أو النظرية التي أعلنها كل من الاميركيين والروس في آن معاً في سوريا منذ حوالى الشهرين لسحق المعارضة في المناطق الموالية لها. فالمبعوث الدولي استيفان دي ميستورا استطاع آنذاك حمل الطرفين الدوليين على إعلانها على خلفية سلطة الوصاية الروسية على بشار الأسد ونظامه وحلفائه من جهة وفي المقابل ما يدعيه الاميركيون من قدرة اقناع مماثلة على المعارضة السورية المعتدلة. وقد استفاد دي ميستورا كثيراً في حينه من اضطلاع عمان (الأردن) من تسمية وتعداد الفصائل المعارضة المعنية التي ناهزت الماية والستين فصيلاً والتي ما لبثت ان عقدت مؤتمرها التحضيري في الرياض والتي استبعدت كلاً من داعش والنصرة واضطرت لبذل جهود كبيرة لاعتماد عضوية جيش الاسلام. بل فاجأ الرئيس «فلاديمير بوتين» المجتمع الدولي بإعلان سحب عدد معين من مقاتلاته وقاذفاته الجوية من سوريا (قاعدة حميميم وسواها…) وإبقاء ما لا يقل عن ثلاثين منها وذلك بذريعة متابعة الغارات على داعش. لا بل ارفق دي ميستورا بنود الهدنة بانتزاع موافقة لفظية من النظام الاسدي وحلفائه وبخاصة حزب الله اللبناني على السماح لقوافل المساعدات الانسانية بالدخول الى ما لا يقل عن 18 بلدة وقرية سورية كانت تشارف على الهلاك بفعل الحصار الوحشي الخانق المضروب عليها، وصلت مدة الحصار في بعضها الى السنتين. وكان الهدف المنشود من كل ذلك انجاح مفاوضات جنيف 3 غير المباشرة. بالطبع كان بإمكان «سيرغي لافروف» في حينه وفي خضم تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات (وفد المعارضة) ان يعمد الى محاولة ابتزاز المعارضة عن طريق ممارسة ضغوط قوية عليها كي تقبل في صفوفها بعضاً من معارضي الداخل السوري الموالين لها كقدري جميل وسواه الا انه عاد فأرجأ ذلك لوقت لاحق اي بالضبط عندما ستتطرق مفاوضات جنيف للبند الذي يسميه دي ميستورا «الانتقال السياسي» وهو بيت القصيد. ولا ننسى قط في هذا المجال ان عدداً من مندوبي الداخل السوري الموالين للنظام الاسدي قد اضطرت المعارضة للموافقة على حضورهم على قاعدة تمثيلهم هيئات المجتمع المدني.

في جنيف مر البندان الأولان وهما الاتفاق على وحدة الاراضي السورية ومكافحة الارهاب بسلام ومن دون اعتراض، وكان في ذلك رفض قاطع للمحاولات الجارية من بعض الفصائل الكردية إعلانها الانفصال.

إلا أنه يجدر بنا هنا تسجيل ملاحظات مهمة في ما يتعلق بالوضع الميداني في سوريا والاضاءة على بعض المسائل والتطورات التي كانت تواكب معاودة جلسات جنيف 3 للانعقاد وهي ابعد من تصريحات وليد المعلم حول الأهمية البالغة التي يوليها لبند «الانتقال السياسي» أو التصريحات الاستفزازية لمندوب سوريا في مجلس الأمن بشار الجعفري والتي بالامكان نعتها بالاستباقية عندما قال ان التطرق لموضوع مصير الأسد هو خط أحمر. 

والحق انه تجدر بنا الملاحظة ان تدفقاً نوعياً كبيراً للقوات الايرانية كان قد بدأ يطأ ارض سوريا وأن لواء كومندوس 65 قد بدأ يصل فعلاً الى هناك. وفي آن معاً تولي مسؤولين ايرانيين كبار اطلاق وابل من التصريحات الاستباقية قبل وصول دي ميستورا مؤخراً الى طهران ومفاده ان الأسد باق في السلطة وانه في صدد خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة وان ايران ترفض الضغوط الاميركية التي تمارس عليها لحض بشار الأسد على التنحي. الأسوأ من ذلك كان معاودة ما تبقى في سوريا من القاذفات الروسية الاغارة على حلب وريفها وكذلك عودة طيران النظام الاسدي لقصف حلب بالقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة. وفي آن معاً التنكر العلني لقوات النظام وحزب الله لتعهداتهم بالسماح لقوافل المساعدات بالوصول الى البلدات والقرى المحاصرة مما اضطر الأمم المتحدة الى ايصالها جواً بالمظلات!

في المقلب الايراني، حيال الفوضى الهائلة التي ضربت العراق من اقصاه الى اقصاه والذي شهدنا فيه كيف احتدم القتال بين قوات البيشمركه الكردية من جهة وقوات الحشد الشعبي الصدري من جهة أخرى في طوز خورماتو (قرب كركوك) والممارسات المذهبية المشينة بحق أهلها التركمان، وفي آن معاً اجتياح المنطقة الخضراء في بغداد في فوضى عارمة، فان المحمية الايرانية «العراقية» تكاد والحالة هذه ان تتحول الى صومال ثانية، لهذا فان طهران تلجأ لاجراء تجارب جديدة على صواريخ جديدة باليستية متطورة؟ طريقة مثلى لستر وتغطية الفشل والعجز.

ان مدينة حلب وريفها يحترقان الآن. والاحياء داخل المدينة تتساقط ركاماً ونتفاً وشظايا. والأهالي نزحوا الى الحدود التركية. والحكومة التركية ترفض استقبالهم الا بشروطها التي عرضها في بروكسيل عاصمة الاتحاد الأوروبي. وتحصد طائرات النظام الاسدي تعاونها القاذفات الروسية، آلاف الضحايا. بل حتى المستشفيات والمستوصفات يجري تدميرها بالكامل، الواحدة تلو الأخرى. فهل يمكن القول ان بوتين لم يكتف بتعديل ميزان القوى الميداني وهو منكب الآن على مساعدة الأسد ما اوتي لفرض شروطه في جنيف 3. لكي يكون بشار نفسه هو الناظم والمهندس للمرحلة الانتقالية؟ لقد اشتد ساعده وهو يظن انه اصبح بمقدوره فرض شروطه.

ان جل ما اصبح يقبل به الاسد الآن لم يعد مرحلة انتقالية تشابه ولو من بعيد بيان جنيف الأول، اي حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ولا حتى مرحلة انتقال سياسي يترافق مع اصلاحات دستورية اساسية ينص على تحول سوريا من نظام رئاسي الى ديموقراطية برلمانية فعلية، بل تجده قد لجأ مراوغة الى اعتماد خمس نواب للرئيس، بل نسمعه يتحدث عن حكومة سورية جديدة قد تضم بعضاً من اركان المعارضة. انه ضمن هذا الفهم يريد الاسد تكريس تصوره هو ورؤيته هو وقراءته هو للمرحلة الانتقالية اي بكل بساطة اجراء عملية تجميل سطحية لتلك العجوز الشمطاء التي اسسها النظام الأسدي غير القادر على الاستمرار على قيد الحياة رغماً عن استحضاره الى ارض سوريا ما لا يخطر على بال من اصناف الجيوش والميليشيات الخليفة واستيلاده الفصائل الارهابية الدموية حتى يروع بها المسلمين والعرب والعالم.

حلب تحترق الآن كما احترقت حمص بالأمس القريب ودوما وداريا وإدلب، تماماً كما احترقت حماه منذ عقود، فهو الامين الوفي لتلك التركة الدموية التي ورثها كتراث عائلي يصفها احد المقربين من الاسد الاب بالقول انه في سبيل تحقيق مراده، فان اي شيء آخر كان يهمه ما عدا عدد الضحايا!

حلب تحترق… لكن الثورة السورية مستمرة