من غارة طيران التحالف على مواقع النظام في دير الزور٬ التقط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإشارة٬ وأدرك أن الطريق بين البيت الأبيض والبنتاغون ومؤسسات صناعة القرار الأميركي الأخرى مليئة بمطبات تعيق رغبته في تحقيق تقدم حاسم٬ وتجبره على تخفيض سرعة اندفاعه في سوريا٬ وكذلك في أوكرانيا٬ فهو في سباق مع الزمن قبل الوصول إلى الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني)٬ موعد خروج باراك أوباما من البيت الأبيض. وبالنسبة له٬ هو موعد الإعلان عن نهاية مرحلة سياسات التردد الأميركية٬ والانكفاء عن القضايا الدولّية. ففي واشنطن٬ بات من المسلم به٬ بغض النظر عن هوية الرئيس الجديد٬ أن تتجه مؤسسات الدولة الأميركية (الدفاع٬ والخارجية٬
والمخابرات٬ والكونغرس) إلى استرداد صلاحياتها من البيت الأبيض٬ التي كان باراك أوباما قد صادرها٬ وعطلها ليمرر رؤيته الخاصة في التعاطي مع كثير من الملفات الخارجية٬ التي في محطات كثيرة تعارضت مع ثوابت مصالح الأمن القومي الأميركي بعد الحرب الباردة.
في ولاية فيرجينيا٬ حيث مقر وزارة الدفاع الأميركية٬ لم يرق لكبار جنرالات الجيش رؤية وزير خارجية بلادهم جون كيريُيقر لنظيره الروسي المتعجرف سيرغي لافروف بانتصار مجاني في حلب. ففي جنيف٬ في ليلة البيتزا والفودكا٬ فشل كيري في تحقيق مطالب البنتاغون بفرض حظر جوي بالوسائل الدبلوماسية٬ فقدموا لرئيسهم عرضا بتوجيه ضربات عسكرية خاطفة تقضي على ما تبقى في ترسانة بشار الأسد من طائرات حربية ومروحيات٬ لكن البيت الأبيض كعادته تذرع بحججه غير المقنعة٬ ورفض العرض الذي لو نفذ لوضع الطائرات الروسية الحربية في مصيدة الاتهام المباشر بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين السوريين٬ بعد أن أصبحت وحدها تحلق فوق مناطق المعارضة.
بالنسبة لموسكو٬ ما وضعه البنتاغون على الطاولة هو مقدمة لتحول أميركي مقبل في التعاطي مع الملف السوري٬ وكان قد سبقه قرار لمجلس النواب الأميركي يسمح بإمداد أوكرانيا بالسلاح٬ وهي قرارات تنسجم مع اللهجة التصعيدية التي استخدمتها مندوبة الولايات المتحدة والمندوب البريطاني في مجلس الأمن٬ والتي أجمعت على وصف الأفعال العسكرية الروسية في حلب بالوحشية٬ واتهام موسكو بارتكاب جرائم حرب٬ مما دفع المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى اعتبارها تصريحات «تضر بعلاقاتنا». ففي مجلس الأمن٬ لمست موسكو تحولا في المواقف٬ وأيقن وزير خارجيتها أن كلام الليل في جنيف يمحوه النهار في نيويورك٬ وأن ما كانت بلاده تحسبه نصًرا٬ كان قاب قوسين أو أدنى إلى إدانة أممية لها. فبعد سنة على تدخلها المباشر في الحرب السورية٬ لم تحقق موسكو كثيرا من طموحاتها٬ ولم تتجاوز حدود مكاسبها المحافظة على هيكل نظام عاجز عن تحقيق أي تقدم٬ دون تدخل طيرانها جًوا٬ ومرتزقة حليفتها طهران بًرا٬ وهي على الرغم مما يبذله لافروف من جهود دبلوماسية من أجل إقناع الرأي العام الدولي بوجهة نظرها بالحرب على الإرهاب٬ فإنها باتت في نظر الجميع شريكة للأسد في جرائمه.
اقترب العالم من رفع البطاقة الصفراء بوجه روسيا المسَتفزة٬ وممن تبقى لها من حلفاء في المنطقة٬ بتحقيق انتصار لن تناله دون الانغماس الكامل في الحرب٬ وهو قرار يتطلب إرسال المزيد من الجنود٬ واستخدام أكثر للطيران٬ مما سيضع الخزينة الروسية المنهكة أصلا أمام مصاعب مالية إضافية٬ فيما ستكون تكلفة الدم أكثر إيذاًء للروس٬ الذين لن يستطيعوا الدخول إلى حلب دون ارتكاب جريمة قد توصف بجريمة العصر٬ وستنعكس مباشرة على علاقتهم ودول المنطقة٬ التي ستتجاوز الخطوط الحمراء التي وِضعت منذ بداية الصراع٬ وتقوم بموافقة أميركية بتزويد المعارضة بالسلاح الذي كان محذورا عليها لسنوات٬ حيث يصبح (الستينغر وأشقاؤه) وفقا لما سّربته وكالة «رويترز»٬ مساء الاثنين٬ عن مصدر أميركي رسمي٬ الحّد الفاصل بين اقتناع بوتين بالتسوية أو الأفغنة.
على أبواب حلب٬ تقف موسكوُمربكة٬ وفي حوزتها القليل القليل من الوقت٬ وأمامها الكثير الكثير من الدم. فآلتها الحربية المدمرة الماحقة للمواطنين الأبرياء٬ يمكنها تحطيم الخصم٬ وهو يعرف أن دخول المدينة ليس بالعسير٬ إذا قرر استباحتها٬ لكنهُمكلف إذا تأخر في حسمها٬ وهو خيار يصعب التراجع عنه٬ على الرغم من تداعياته٬ لكن الحاجة إليه تبرر أثمانه٬ فقد بات بوتين أو يبدو هكذا أنه أسير كبريائه٬ لا يقوى على التراجع٬ فهو الذي غامر باستخدام القوة لفرض هيبة بلاده٬ ولا يمنعه أحد عن استخدامها حتى النهاية٬ لذلك هو أقرب إلى المضي في هذه المغامرة حتى النهاية٬ بغض النظر عن نتائجها٬ كخيار وحيد يحفظ له موقعه في التسوية٬ بعد أن رفع بنفسه سقف التحدي٬ وأصبح التراجع بمثابة الهزيمة.