هل لاحظتم أن زيارة علي أكبر ولايتي الى سوريا، تزامنت مع اعتراف إيران بمقتل 13 مستشاراً من الحرس الثوري في منطقة حلب؟ الخبران ليسا عابرين. الزائر الإيراني هو أحد أبرز مستشاري مرشد الثورة السيد علي خامنئي للشؤون الدولية. ذهابه الى دمشق وما تخلله من لقاءات مع الرئيس السوري وكبار مسؤولي الدولة وتصريحاتٍ داعمة لبشار الأسد شخصيا، مقصودٌ تماما في هذه المرحلة الحرجة والخطيرة جدا في الحرب السورية.
الإعلان عن مقتل الإيرانيين، وزيارة ولايتي، يسبقان على الأرجح مرحلة من التطورات العسكرية والسياسية التي ستحدد ليس فقط مصير حلب، بل أيضا مستقبل المحاور في الحرب السورية. هل ينهزم طرف أم محور، أم يتقاسم الجميع الهزائم؟
لنتوقف اولاً أمام التطورات الآتية:
تبين من التصعيد الدموي العنيف في حلب خلال الأيام الماضية، أن ثمة أطرافاً إقليمية ودولية ترفض أن تحتكر موسكو وواشنطن الحل السوري. لذلك تعمّد وزير الخارجية الأميركي تحميل جزء من مسؤولية التدهور للمعارضة (وهو يقصد من يدعمها أيضا). قال جون كيري: «إن الحرب في سوريا باتت خارجة عن السيطرة، وإن النظام والمعارضة يتحملان مسؤولية انتشار الفوضى». لم يكن هذا تصريحا عابرا، ذلك أن المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرنست قال أيضا: «إن النظام والمعارضة المسلحة ساهما في تدهور الأمن في حلب». مع ذلك فإن كيري سعى، كالمعتاد، للعب على الحبلين، فهو اذ اتهم المعارضة المسلحة بأن قصف مستشفى حلب جاء من مناطقها، جدد المقولة الأميركية بأن الحرب لن تنتهي إلا برحيل الأسد. لكن هنا أيضا كان تصريح لافت من البيت الأبيض متوجهاً مباشرة هذه المرة الى الأسد ليطلب منه «تنفيذ التزاماته في ما يتعلق باتفاق الهدنة» وقال: «نود أن نرى الروس يستخدمون نفوذهم على نظام الأسد لحمله على ذلك»، ثم رمى جزرة لموسكو بإضافة جملة تقول إن أوباما: «لا يرى أن إنشاء مناطق آمنة في سوريا هو بديل عملي حاليا».
قابلت موسكو المؤشرات الإيجابية الأميركية، بموقف لافت أطلقه وزير خارجيتها حيال الأسد. قال سيرغي لافروف: «إن الأسد ليس حليفاً لموسكو كما تركيا حليفة للولايات المتحدة». صحيح أن في التصريح ما ينتقد أميركا التي لا تضغط على أنقرة والرياض، لكن لافروف كان يستطيع أن يقول ذلك من دون التذكير المريب بموقف موسكو من الأسد. إن لم يكن هذا الأخير حليفا فماذا تفعل روسيا في سوريا؟ هل كل ما تقوم به من قاعدة عسكرية ووجود مسلح ودور سياسي يحصل من دون رضا الرئيس؟ هل في الأمر مناورة من بوتين ام استعداد لشيء آخر؟
أمام الغزل الروسي الأميركي المستمر وسط استمرار سفك الدم السوري، دخلت الأطراف الأخرى على الخط: رفعت السعودية وتركيا مستوى القتال عبر حلفائهما. اخترقت الطائرات التركية مجدداً سماء سوريا بذريعة ضرب «داعش». ارتفعت حدة الاتهامات بين الهيئة العليا للتفاوض من جهة ودمشق وموسكو من جهة ثانية. ارتفعت أيضا لهجة الاتهامات بين أنقرة وموسكو.
في مقابل هذا الغزل، فإن من يدقق بالكلمة المتلفزة الأخيرة للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، يرى المعركة الكبرى في حلب ومنطقتها قادمة لا محالة. قال نصرالله: «لا ينخدعن أحد، ولا يضعنَّ أحد توقعات هي أوهام، حتى لا يغفل أحد عن المواجهة الحقيقة، كلا هناك شهور صعبة. يدفع السعودي مزيداً من المال، والمزيد من القوات… ربما تأتي إدارة أميركية جديدة تماشي السعودية بحروبها التدميرية… اذاً يوجد تقطيع وقت..». دعا نصرالله بالمقابل الى: «المزيد من الحضور في الميادين والساحات، الساحات العسكرية، والساحات الأمنية، والساحات السياسية»… حين يتحدث الأمين العام عن «ساحات» بالجمع، فهو يؤكد المؤكد من أن الجبهات مترابطة من حلب الى اليمن والعراق…
ما هو المنتظر قبل الانهيار الكبير في حلب؟
لا يختلف رأي الروس عن آراء الأسد وخامنئي ونصرالله. يجب استعادة حلب الى كنف الدولة السورية. قرار استعادة المدن السورية الكبرى هو في صلب الاستراتيجية العسكرية لبوتين وهذه الأطراف. الاختلاف هو حول الوسيلة الراهنة.
الرئيس الروسي يفضّل أن يحصل ذلك بتسوية مع الأميركيين وبضغوط واشنطن على حلفائها الإقليميين. هو يفضّل أيضا أن تكون حلب وسيلة لتفاهمه مع الدول الخليجية وفي مقدمها السعودية بعدما قطع شوطاً بالتفاهم مع قطر. لن يعود الى القتال والتغطية الجوية الكبيرة إلا إذا فشلت كل مساعيه السياسية. الحرب مكلفة عسكرياً ومرهقة مالياً. لا بأس إذاً أن يحاول بالسياسة. ايران أيضا تفضّل عدم الحرب، لكنها ترى مع الجيش الروسي والحزب أن الهدنة الطويلة بلا نتائج تعزز استقدام قوات إضافية وأسلحة للطرف الآخر.
لم يقل بوتين ولا مرة إنه حليف الأسد أو إنه متمسك ببقائه على رأس السلطة (خلافاً للمجاهرة الإيرانية مراراً بذلك وآخرها على لسان ولايتي وحسين أمير عبد اللهيان). يقول بوتين إنه يدعم الحكومة السورية ضد الإرهاب وإنه يرفض أي تدخل خارجي في موضوع الرئاسة الذي ينبغي على السوريين أنفسهم أن يقرروه. بمعنى آخر، إن موسكو تريد المراهنة على الزمن في حل عقدة الأسد، وهي نجحت في إبعادها كأولوية في مفاوضات جنيف وفي التفاهم مع أميركا.
يتفق بوتين وأوباما على أن الجيش السوري هو حجر الرحى في المرحلة المقبلة ضد الإرهاب. لكنهما يختلفان حول أي جيش ومن يضم ومن هي قيادته. ثمة مشاريع كثيرة بُحثت حول إعادة هيكلة هذا الجيش وإدماج فصائل مسلحة فيه. من هنا يبدو الرفض الروسي المطلق لأي كلام عن «النصرة» أو «جيش الإسلام» أو «أحرار الشام». لكن حين يتم توسيع إطار الرفض في المفاوضات، يعني يمكن القبول لاحقاً بشيء مما يتم رفضه الآن.
المتوقع إذاً، هو أن ترفع الأطراف الإقليمية بالتعاون مع دول غربية، مثلا فرنسا وبعض أوروبا، اللهجة اليوم في باريس. ففي الاجتماع الذي يضم وزراء خارجية كل من فرنسا وأميركا وألمانيا وبريطانيا والسعودية وتركيا وقطر، من المنتظر تكثيف لهجة تحميل المسؤولية للنظام السوري والمطالبة بتسريع رحيله، وتكثيف الكلام عن إبادة جماعية وجرائم حرب. لن يكون غريباً أن نسمع اتجاهاً للعودة الى مجلس الأمن وتهديدات باللجوء الى أساليب أخرى ما لم يقتنع النظام بتنازلات في جنيف. لكن من المفيد مراقبة حركة كيري وتصريحاته، وهو يتفق مع لافروف على تهميش الأوروبيين والخليجيين في إدارة المفاوضات والحل السياسي. فهل هو ذاهب الى باريس للانضمام الى آلة الضغط، أم لتنفيس الطموحات الأوروبية والضغوط الخليجية؟
من المتوقع أيضا أن ترتفع اللهجة الخليجية والتركية حيال حلب. ففي القاهرة تعقد لجنة الشؤون الخارجية والسياسية والأمن القومي للبرلمان العربي، اليوم، اجتماعاً طارئاً في مقر جامعة الدول العربية. الهدف منه مساعدة الدول الغربية على استصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن ورفع الضغوط على النظام السوري وتحميل إيران و «حزب الله» جزءاً كبيراً من المسؤولية عما يحصل في سوريا، والضغط على موسكو.
أما الاجتماع المهم فهو ذاك الذي تعقده مجموعة دعم سوريا في فيينا في 17 الجاري لبحث مستقبل الحل السياسي. وهذا يفترض أن تسبقه موجات من القتال لتحسين الشروط.
هل تقع الحرب الكبرى في حلب؟
على الأرجح نعم، ما لم تحصل معجزة سياسية، يقول بعض أصحاب القرار. لكن مصادر دولية تؤكد أن كل هذا الضجيج هو لإجبار الجميع على التنازلات المفصلية في الجولة المقبلة من التفاوض الموسع.
الجميع يحتاج حلب لتغيير المسارات العسكرية والسياسية، والجميع قلق منها. لم يعد السؤال هل تحصل الحرب أم لا بالرغم من كل محاولات بوتين تفاديها منذ فرض مع الأميركيين الهدنة القسرية على الجميع، لكن السؤالين الأكثر أهمية: كم ستكون كلفة هذه الحرب المدمرة لو وقعت؟ ذلك أن الجميع يستعد لخوضها بأشرس ما عندهم من رجال وعتاد؟ وماذا سيكون عليه الوضع غداة انجلاء الغبار عن خسائرها الفادحة، لو وقعت.
لا شك بأن أوباما مستعد في نهاية ولايته لأن يهدي حلب لروسيا وحلفائها، لكنه يريد بالمقابل الأسد ثمناً ولو بعد حين…. لعل هذا بالضبط ما جعل ولايتي يقول في حديثه لقناة «الميادين»: «إن حلب هي ثاني مدينة مهمّة في سوريا، وتحريرها وإعادة بنائها من أهم الواجبات والأولويّات… وإن أصدقاء سوريا يعلمون، وأعداء سوريا يعلمون، أنّهم لن يستطيعوا بأي شكل من الأشكال فرض حلّ مفروض على الشعب السوري»… هو يعني رفض أي محاولة من «الأصدقاء» أو الأعداء لرحيل الأسد، معتبراً، كما اللهيان، أن الأسد خط أحمر. على الأرجح ان كلامه، اذاً، موجّه الى موسكو بقدر ما هو موجّه الى واشنطن والسعودية…
لا مغالاة في القول، إن حلب ومناطق سورية أخرى على شفا أخطر الحروب، فهي لن تحدد فقط مصير سوريا، ولكن أيضا ستقرر مآلات الحرب بين إيران والسعودية في المنطقة، ومستقبل التوازن الدولي الروسي الأميركي. وربما مستقبل العلاقة الروسية الإيرانية.
أما الشعب السوري، فسوف ينزف أكثر، مع الأسف، حتى انجلاء الصفقة أو غبار القتال.