من موقع المنتصر كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يستعد خلال الأيام المقبلة لتوقيع اتفاق تفاهم مع نظيره الأميركي جون كيري حول سوريا٬ تطال تداعياته عموم الشرق الأوسط٬ فحزمة الإملاءات التي حاول قيصر الكرملين المندفع سياسيا وعسكريا فرضها على إدارة البيت الأبيض أقرب إلى إقرار تسلم به واشنطن٬ ومن خلفها ما يعرف بالمجتمع الدولي٬ بالمنطق الروسي في حل الأزمات الدولية. فقد كان لافروف قاب قوسين أو أدنى من إعادة الاعتبار لسلفه وزير خارجية الإمبراطورية القيصرية سرغي سازانوف٬ الذي شاءت الثورة البلشفية أن تحرمه من أن يكون شريكا للدبلوماسيين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو في التوقيع على اتفاق تقاسم التركة العثمانية في المنطقة العربية٬ بعد الحرب العالمية الأولى٬ الذي عرف طوال مائة عام باتفاقية سايكس بيكو.
لقد بالغت موسكو بأوهام القوة التي تمتلكها٬ ودفعها الشعور بالغلبة إلى الاعتقاد بأنها قادرة على تغيير الثوابت الجيو سياسية التي حكمت منطقة الشرق الأوسط بعد نهاية المرحلة الكولونيالية٬ فاندفعت في لحظة ترقب إقليمي٬ وانشغال أميركي٬ إلى استغلال فرصة قد لا تتكرر في تاريخ المنطقة والعالم٬ حيث القيادة التركية منشغلة بإعادة ترتيب بيتها الداخلي٬ وغير مستعدة لمواجهة إقليمية٬ بعد أن تعرضت لخيانتين استراتيجيتين٬ واحدة من أوباما الذي ساند خصومها الأكراد٬ وأخرى من الناتو الذي لم يقف إلى جانبها بحزم في أزمتها مع موسكو بعد حادثة إسقاط السوخوي٬ ثم تمترس لافروف خلف منطق القوة الذي اعتقد أنه يعفيه من الرد على عرض للتفاهم حول الأسد يتيح لروسيا حماية مصالحها في سوريا٬ إضافة إلى دور بناء في الشرق الأوسط٬ كما أمعنت موسكو في الرهان على مسلسل التنازلات الأوبامية٬ غير آبهة بردة فعل مراكز صنع القرار في واشنطن المتمسكة بمنطق الهيمنة الأميركية والأحادية القطبية كدولة منتصرة في الحرب الباردة.
وعليه٬ منذ الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الأحد بتوقيت حلب٬ باتت موسكو في مواجهة معضلتين٬ الأولى هجوم معاكس للمعارضة السورية أفشل محاولاتها إسقاط المدينة عن طريق حصارها٬ وخنقها التدريجي٬ ثم تدميرها٬ كما فعلت في غروزني٬ فعاصمة الشمال السوري ليست معزولة عن محيطها كما العاصمة الشيشانية٬ وإذا كان الصراع في شمال القوقاز شأًنا روسيا داخليا٬ فإن حلب أصبحت قضية عربية إسلامية إقليمية ودولية٬ فهذه التقاطعات من شأنها أن تدفع من تبقى من الواقعيين في موسكو إلى تحذير الكرملين من مخاطر انتصار للنظام في حلب يجير لصالح مشروع قومي مذهبي تقوده طهران٬ ويضع روسيا في مواجهة مفتوحة مع الأغلبية العربية والإسلامية٬ كما أن انتفاضة المعارضة في حلب قد تدفع مؤسسات الدولة التقليدية في واشنطن إلى الاستعجال في وضع يدها على الملف السوري في الأشهر الأخيرة من عهد أوباما في السلطة٬ لوضع حّد لسياسة الانكفاء التي يمارسها البيت الأبيض٬ التي تسببت بإطلاق يد موسكو في سوريا على حساب النفوذ التقليدي لواشنطن٬ وهو تحول في الموقف قد تتخذه قيادة الحزب الديمقراطي٬ التي تتخوف من أن يستغل خصومها في الحزب الجمهوري إخفاقات أوباما كيري الخارجية في التأثير سلبا على مرشحة الحزب هيلاري كلينتون في سباق الرئاسة الأميركية.
كما أن بوتين ليس بطرس الأكبر٬ ولا إردوغان بالرجل المريض٬ فكيف تتقبل أنقرة خسارة استراتيجية بهذا الحجم تعيد العلاقة بين البلدين إلى مربع التوتر الأول٬ وتفرغ لقاءهما المقبل من أي مضمون فعلي. أما الرياض التي تتشارك الموقف مع معظم العواصم المؤثرة في ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية٬ فإنها ترفض أن يكون الأسد ونظامه جزءا من هذا التوافق٬ وتقف بصلابة في وجه مشاريع إعادة تعويمه٬ حيث لا يمكن لها الوثوق بنظام عميل قتل نصف مليون من شعبه.
فيما المعضلة الثانية لبوتين هي في إعادة الاعتبار لقواته المسلحة التي فشلت استراتيجيا في فرض سيطرتها على الميدان السوري٬ مما أتاح للمعارضة القدرة على التحرك والمباغته في حلب٬ وفي كيفية الانتقام لسقوط المروحية العسكرية في ريف إدلب٬ وهو ما بات يتطلب انخراطا أوسع في المعارك يعيد إلى أذهان الروس ذكريات المستنقع الأفغاني.
افترضت الإمبريالية الروسية الجديدة أنها على أبواب عصر جديد٬ تنحني فيه الشعوب والدول أمام غطرسة القوة٬ من سوريا إلى أوكرانيا٬ إلا أن الصفعة في حلب كشفت حدود القدرة الروسية في رسم السياسات الإقليمية والدولية خرائطها المستقبلية.