في ظل المشاهد القاسية والمُفجعة والمُنفرة في أغلب الأحيان التي تصل من حلب ومن مدن سوريّة أخرى مثل الغوطة وإدلب، يذهب إعلام «الممانعة» إلى صب جل اهتماماته وتركيزه على تلميع صورة النظام السوري في محاولة منه لنزع صورة الإجرام والقتل عنه، خصوصاً خلال الفترة الحالية التي يشهد فيها شرق حلب مجازر وموت بالجملة وأشلاء تعود لأطفال ونساء بفعل القصف الجوي الذي تُنفذه طائرات الحلف «الممانع» على حلب والذي يفوق عدد الساعات في اليوم.
أمس، تباهى أحد المواقع الإلكترونية التابع لإعلام «الممانعة» بـالإنجازات التي يقوم بها النظام السوري في حلب، ولهذا الغرض أفرد ما أسماه دراسة تحدث خلالها عن «انتصارات استراتيجية وإنجازات سريعة تُظهر نجاح وكفاءة الخطط العسكرية وتنفيذها». لكن، وكما في كل مرّة يأتي فيها هذا الإعلام على توزيع شهادته، يكون هناك ضحايا بالجملة نتيجة هذه التقارير المُفبركة والتي لا يستطيع المرء إلا أن يضعها ضمن خانة قلب الحقائق فيحوّل من خلالها الضحيّة إلى جلاّد والأخير إلى ضحيّة. هذا الإعلام سخّف أمس أوجاع الناس وموتهم في حلب، فلم يمر على الجثث الموزّعة في الشوارع وعلى الأرصفة ولم يلحظ صوت استغاثات الناس ولا أنين الجرحى ولا الخوف في عيون الأطفال، بل كان كل همه مُنصبّاً، على «انتصار» آلة الدمار التي كانت تفتك بالبشر والحجر.
قد تكون هناك «انتصارات» محدودة في حلب وغيرها من المناطق حقّقها النظام السوري وحلفاؤه، وهذا أمر طبيعي في ظل الغياب الكامل للتوازنات العسكرية واللوجستية خصوصاً في ظل الدعم الإيراني والميليشيات التابعة له على الأرض، واحتلال الأجواء السورية بالطائرات الروسية التي لم تترك زاوية في حلب إلا وقلبتها رأساً على عقب. لكن وسط هذا التفوّق، ثمة خسائر كبيرة في أرواح المدنيين، وهذا الأمر يستلزم من «الممانعة» في مكان ما، التغطية عليه من خلال دراسات وبرامج وإطلالات سياسية هدفها الوحيد، تبييض صفحة النظام وحلفائه من أجل حرف الأنظار عن الجرائم والفظائع التي يرتكبونها. وقد يصل الأمر بهذا الإعلام، إلى حد يمكن فيه وصف المدنيين الذين يسقطون في الشوارع، بالإرهابيين، وإلّا ما معنى أن يسأل أحد جهابذة المحللين السياسيين على إحدى قنوات «الممانعة»: ماذا كان يفعل هذا المدني على الطريق لحظة وقوع الغارات الجويّة؟.
في مكان ما، يسأل الموقع الإلكتروني «الممانع»: لماذا يفرّ المدنيون كما يقرّ المرصد المعارض والوكالات العالمية الى مناطق سيطرة النظام؟ أليس لأنهم مطمئنون الى الجيش والحكومة وطريقة تعاطي الحكومة معهم وأن خيارهم هو الدولة والجيش؟. لا يبدو السؤال المُفخّخ أكثر بساطة من الإجابة المُقنعة، وهي أنه عندما تحتل سماء حلب طائرات «الميغ» و«السوخوي» ومدعومة بمدفعية مركّزة وراجمات على الأرض، وفي لحظة واحدة تتحوّل فيها المدينة إلى كُتل من لهب وفي الوقت عينه، يتقصد النظام وحلفاؤه، فتح طريق واحد للنجاة بحياة الأطفال والنساء والشيوخ من الموت المُحتّم، يُصبح المواطن السوري أمام خيارين لا ثالث لهما. إمّا أن يموت تحت الأنقاض أو على الطريق، وإمّا أن يفر باتجاه طريق أُطلق عليه تسمية «الممر الآمن»، لكن في الحقيقة أن هذا الممر لا يؤدي في غالب الأحيان، إلاّ إلى الموت نفسه أو إلى السجن. وطبعاً يأتي هذان الاحتمالان، بعد التعرض للنهب والسلب والاغتصاب والاعتقال عند أول معبر.
يروي أحد الأطباء في حلب: «في ساعات الفجر الأولى في حلب، تم إسعاف شابة في مقتبل العمر مع أطفالها وقد اختلط التراب والحجارة بأحشائها. حاولت أن تشير لنا بأن أطفالها أُصيبوا وهي تقول «ولادي ولادي». أدخلناها إلى غرفة العمليات لكننا لم نستطع تأمين الدم اللازم لها، فماتت. في الخارج توقف قلب أحد أولادها بعدما فشلت محاولات الإنعاش، أما طفلها الآخر فهو إلى الآن يصارع الموت وحيداً من دون أمه التي كان آخر كلامها في الدنيا «ولادي ولادي».
يُعبر الطبيب عن لحظات صعبة في حلب فيقول: «ليت الوقت عندنا في حلب يسمح لي أن أبكي بكاء الأطفال. هنا عليك أن تبكي بصمت وأنت تستعد للفاجعة التالية».
تتشابه أجسادهم المُمددة في الأحياء وعند مداخل المستشفيات وداخلها. لا لون لموتهم ولا أصوات تدل على أماكن أوجاعهم. الجميع في حلب يرحلون مُرغمين عن هذه الدنيا من دون أن تشفع لهم صرخات الأمهات وبكاء عيون الآباء ولو بصمت. ومرّة جديدة، ينصاع الحلف الإيراني وعلى رأسه «حزب الله» لقرارات الموت التي يوزّعها بشّار الأسد وأحكام الإعدام التي يأمر بتنفيذها بحق الأبرياء. «حزب الله» الغائب الأبرز عن حلقات الاستنكار لما تتعرض له «حلب» وأهلها، يُصرّ إعلامه على مُجافاة الحقائق وتصوير المجازر على أنها من فعل «الشيطان»، وبما أنها كذلك، فهي رجس لا يجوز الاقتراب منها.