القسطاوي لـ«نداء الوطن»: سيجرى إطلاق أول دبلوم جامعي في أدب الطفل من بيروت
في المِحَن والأزمات، الكلّ يعاني. لكن معاناة الأطفال، بوصفهم أضعف حلقات المجتمع، أضعاف مضاعفة. يمثّل أطفال العالم العربي – الرازح بمعظمه تحت ظروف استثنائية، صعبة وغير مستقرّة – ما يقارب 45% من عدد سكانه. الجهود المبذولة للارتقاء بأوضاعهم من حيث تكافؤ الفرص والرعاية وتنمية القدرات والمهارات، تبقى خجولة. ولبنان، الغارق بالأزمات حتى النخاع، لم يسلم أطفاله من الإنعكاسات. فمقوّمات توافر بيئة نمو صالحة فيه أقلّ ما يقال إنها في أدنى سلّم أولويات مسؤوليه.
الأرقام لا تكذب. وإليكم بعضها. مليون طفل عربي موجودون حالياً في سوق العمل، بحسب منظمة العمل الدولية؛ نصف مليون طفل في الصومال يواجهون سوء التغذية؛ ملايين أطفال السودان يعانون من الصراع المزمن والكوارث الطبيعية الموسمية وانتشار الأمراض؛ نحو ستة ملايين طفل في اليمن على بعد خطوة واحدة فقط من المجاعة، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)؛ نحو 1.3 مليون طفل في موريتانيا يعيشون حالة فقر، 61 في المئة منهم يرزحون تحت «فقر متعدّد الأبعاد»، وفقاً لإحصائيات اليونيسف أيضاً؛ 65 طفلاً في العراق أصيبوا وقُتلوا هذا العام نتيجة الذخائر المتفجرة؛ 50 ألف طفل فلسطيني اعتقلهم الإسرائيليون منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، منهم 1300 خلال العام الماضي، بحسب هيئة شؤون الأسرى. وبين عامي 2021 و2022، أظهر مسحٌ لليونيسف أن 3 من كل 4 أطفال، دون سِنّ الخامسة، يعانون من الفقر الغذائي في لبنان. هذه مجرّد عيّنة، لكنها مرعبة حقّاً.
مواجهة ثقافية
العالم بأسْره يعاني اقتصادياً. وما الفقر والمجاعة والأمّية، كما الانحراف والجريمة وتعاطي المخدرات والاغتصاب وغيرها من الظواهر سوى ارتدادات اجتماعية طبيعية لتلك الأزمة. للوقوف أكثر عند هذا الواقع المرير تواصلت «نداء الوطن» مع مدير كرسي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) في خدمة الطفولة، والكاتب المتخصّص في أدب الطفل، الدكتور إيهاب القسطاوي. يستهلّ كلامه بأن هذه الظواهر الاجتماعية منتشرة في كافة المجتمعات لكن بنِسَب متفاوتة. ويضيف: «من حق الطفل العيش والتعلّم واللعب والنمو في بيئة صحية خالية من المخاطر غير المبرّرة. فإذا لم تتوافر مقوّمات تلك البيئة، انعكس ذلك آثاراً وخيمة على الطفل. هذا بشكل عام. أما عربياً، وإلى جانب تأثير الأزمات الاقتصادية على رفاهية الأطفال واستمرار مكوثهم في دوامة الفقر والحرمان، تأتي حالات النزاع المسلّح والاستغلال وسوء المعاملة، ما يعيق قدرتهم على الذهاب إلى المدرسة، ويؤثّر عليهم تأثيراً ضارّاً عقلياً وجسدياً واجتماعياً وحتى معنوياً».
هذا من جهة. من جهة أخرى، ركّز القسطاوي على ما لمنظومة القِيَم المستورَدة من تأثير على هوية الطفل العربي وعاداته وتقاليده وقِيَمه في ظلّ غياب أي بديل تقدّمه البيئة المحلية. الفضائيات العربية لم تنجح هي الأخرى حتى الساعة فى تقديم محتوى للأطفال يتماشى مع ثقافتهم العربية، لا بل تُركوا فريسة سهلة لمفاهيم تسلّلت إلى عقولهم لتجرفهم بعيداً عن قِيَمهم الأصيلة باعتبار أن التدنّي والرداءة أصبحا القاعدة وغيرهما الاستثناء. «لذلك أعمل جاهداً على بلورة إطار لتنشئة جيل عربي واعٍ بقضية التراث والهوية الوطنية وكيفية الحفاظ عليها في مواجهة الثقافات الغريبة التي تحاصرها، وذلك من خلال التركيز على أدب الطفل ومناهج التدريس والتربية المدرسية والإعلام. فالتعاطي مع اللغة والمحتوى بمسؤولية وطنية يساهم في صياغة الهوية والحفاظ عليها وحمايتها».
مشاريع قيد التحضير
الكثير من الجهد أفضل من القليل، والقليل منه أفضل من اللاشيء. نسأل القسطاوي عن مبادرات إنقاذ الطفل العربي من المخاطر التي تتهدّده، فيشير إلى مشاريع عدّة يتمّ العمل عليها من قِبَل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إنشاء قاعدة بيانات حقيقية للطفولة العربية من خلال تبادُل المعلومات البحثية مع الجامعات ومراكز البحوث الأخرى؛ تدشين المنصة العربية لتعليم الأطفال؛ مبادرات الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال في ظل الأزمات والحروب؛ تدشين إذاعة الطفل العربي التي ستكون أول إذاعة من نوعها فى العالم لأن الأطفال سيكونون أنفسهم مقدّمي برامجها المتنوّعة؛ إعداد قاعدة بيانات للموهوبين فى الوطن العربي لدعم وتنمية مواهبهم؛ التحضير لأول مهرجان أدبي من نوعه فى الوطن العربى، وهو مهرجان ليبيا العربي لأدب اليافعين.
…وحصة للبنان
ثمة مبادرة مميّزة عندما يتعلّق الأمر بلبنان. «الحقيقة أن أطفال لبنان يشغلون حيّزاً كبيراً في نفسي، وقد تقدّمت بمقترح لإنشاء مرصدٍ للطفولة يكون مقرّه مدينة بيروت المثقَّفة، تكريماً لدورها في حركيّة الثقافة، وتكون مهمّته رصد ميول واتجاهات الأطفال بالتعاون مع كافة الأجهزة المعنية بالطفولة في العالم العربي. المقترح لاقى الموافقة والدعم اللازمَين وسيبدأ العمل قريباً بالمرصد الذي أتمنى أن يكون بمثابة نواة لأكاديمية بحثية وتطويرية متخصّصة للنهوض بأدب الطفل»، كما يلفت القسطاوي. ليس هذا فحسب، إذ سيجري إطلاق أول دبلوم جامعي في أدب الطفل من بيروت. في حين ستشهد الأيام المقبلة عدّة فعاليات ثقافية من دورات تدريبية وورش عمل بالتعاون مع الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف والمركز التربوي للبحوث والإنماء. ناهيك باختيار مدينة طرابلس عاصمة للثقافة العربية للعام 2024، وهو الاختيار الذي كرّسته السياسة الثقافية والحضارية من قِبَل «الألكسو» لحمل راية الثقافة العربية. فرغم كل شيء، هذا تأكيد نستشفّه على الثقة بلبنان وبمعالم الثقافة والفكر فيه.
جهودٌ تُثمر
نبقى مع الطفل اللبناني الذي وصفه القسطاوي بحدّة ذكائه الفطري. وهذه القناعة تولّدت لديه بعد مشاركته في أنشطة تفاعلية متعدّدة فى أماكن متنوّعة من لبنان. وهو يرى أن المناهج التعليمية المقدَّمة تساير إلى حدّ كبير مقتضيات هذا العصر، كما لمس رغبة أكيدة لدى المؤسّسات التربوية والثقافية لممارسة دورها رغم الأزمات المتفاقمة. «أثناء اللقاء الذي جمعني بوزير الثقافة اللبناني، القاضي محمد وسام المرتضى، في ديوان عام الوزارة، بدا مصرّاً على أن يستعيد لبنان مكانته كمنارة ثقافية ومركز للتلاقي وحوار الحضارات». وقد تعهّد ببذل ما في وسعه لدعم جهود اللبنانيين الثقافية سواء في الوطن أم في المهجر. ونأتي إلى مبادرة «هذه فلسطين يا أبنائي». فهي أُطلقت في تموز الماضي تحت رعاية سفير دولة فلسطين في لبنان، أشرف دبور، ومن تنظيم المكتب الحركي للأدباء والشعراء في منطقة صيدا، وبالتعاون مع كرسي «الألكسو» في خدمة الطفولة والجمعية الفلسطينية لثقافة وفنون الطفل (مركز فنون الطفل الفلسطيني). المبادرة تُعدّ الأكبر في لبنان، وفقاً للقسطاوي. وقد انطلقت من مخيم عين الحلوة، مخيم المية ومية، شعبة صيدا، شعبة إقليم الخروب، مخيم برج الشمالي، مخيم الرشيدية، مخيم الجليل ومخيم البداوي، محقّقة أصداء إيجابية في مختلف أرجاء العالم العربي من مبدأ دعم أطفال فلسطين. فهؤلاء يستحقّون كل المساندة في ظل ما يحقّقونه من إبداعات وإنجازات رغم الحصار والاحتلال والتضييق وحرمانهم من حقوقهم كافة، كما يقول.
اللغة أولاً وأخيراً
وهذه نصيحة بـ»بلاش» منه للطفل اللبناني، خصوصاً، والعربي، عامة: «من الضروري تخصيص وقت للمطالعة لتصبح جزءاً من روتين حياتكم اليومية، واعتبارها عادة وقيمة يجب تعزيزها لبالغ أهميتها في بناء شخصيتكم». لكن كيف يمكن إعادة تحفيز الأطفال على القراءة بطُرق خلاقة وجديدة تواكب متطلّبات العصر التكنولوجي؟ يجيب القسطاوي: «الجهود الرامية عربياً إلى تشجيع الأطفال على القراءة تصطدم بحزمة من التحديات. الأمر الذي يؤكّد ضرورة وضع رؤية قابلة للتطبيق للتعامل مع تلك التحديات. ولعلّ أبرزها يتمثّل في أن أدب الأطفال يُصاغ بلغة لا تتصل بمفهوم اللغة التي تخدم الطفل وتمكّنه من التعبير عن ذاته ونستطيع عبرها أن نشرح له ما نريد منه. أضف إلى ذلك ظاهرة الدُخلاء على المشهد الأدبي التي تسبّبت بمزيد من السطحية والارتباك بسبب «المجاملات» في بعض المؤسسات المعنية بالنشر».
تجدر الإشارة إلى أن «الألكسو» عملت على وضع إطار مرجعيّ مشترك للغة العربية، سعياً منها لمواكبة اللغة العربية للتطوّر العصري. يضاف ذلك إلى تعزيز اللغة في الدول العربية ذات الاحتياجات الخاصة، كما إنجاز العديد من الإصدارات والمعاجم لتوفير المصطلح وتوحيده. كذلك، هي أسهمت في حركة تعريب التعليم العالي وشرعت في وضع البرامج والخطط والمشروعات لتنفيذ مشروع النهوض باللغة العربية، سواء على مستوى السياسات اللغوية أو تطوير المناهج وطُرق التدريس وتحديد مؤشّرات عربيّة موحّدة. كل ذلك من أجل تطوير البنية المعرفية ونشر ثقافة الإبداع والابتكار في المجتمعات العربية. وهذا مجتمِعاً يدعو إلى التفاؤل على صعيد خلق فرص وأوجه تعاون مشتركة بين الدول العربية الأعضاء. إن لم يكن سياسياً، فثقافياً على الأقلّ…
لمحة عن «الألكسو»
أُعلن رسمياً عن تأسيس «الألكسو» في القاهرة بتاريخ 25 تموز 1970. هدفُها الذود عن اللغة العربية وتنميتها والنهوض بها وتطويرها ومنْحها المنزلة الجديرة بها من خلال سياساتها وبرامجها ومشروعاتها. عملت دون كللٍ منذ 53 عاماً على تأسيس آليّات متجدّدة للنهوض بالثقافة العربية باعتبارها المرآة التي تعكس طبيعة الحياة الاجتماعية والفكرية للوطن العربي، ولارتباطها الوثيق بمفهوم الحضارة. دأبت على إرساء منظومة متكاملة من الأسس التي تعمل على تعزيز دور اللغة العربية في نقلِ الصورة الحقيقية عن الشعوب العربية إلى الشعوب الأخرى. من هنا، ركّزت جهودها من أجل المساهمة الإيجابية في رسم السياسات العامة في مجالات التربية والثقافة والعلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصال على مستوى الدول العربية من خلال تنفيذ الخطط والبرامج والمشاريع والأنشطة الميدانية المؤثرة في الدول الأعضاء، والعمل على رفع الكفاءات فيها. حرصت «الألكسو» على رفع مستوى الموارد البشرية وتطوير المستوى التربوي والثقافي والعلمي في الوطن العربي للقيام بالمهام المناطة به في متابعة الحضارة العالمية والمشاركة الإيجابية فيها.