عندما انطلقت ما سمّيت ثورات «الربيع العربي» في كل من مصر وتونس وليبيا عام 2010 وكانت شعوب هذه الدول ترفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، سُئل مرجع مسؤول سابق: هل سيكون للبنان «ربيعه» أيضاً؟ فسارَع الى الرد قائلاً: «مستحيل». فقيل له: لماذا مستحيل؟ فأجاب: لأنّ لبنان بلد طوائف، فما ان تحاول طائفة التجرؤ على الآخرين يُسارع هؤلاء الى التصدي لها، ما يعني انّ في البلد «توازن رعب»، إذا جاز التعبير، هو ما يحمي لبنان واستقراره على رغم من انني لا أستبعد أن تطاوله بعض شظايا «الربيع العربي» من دون ان تحدث أزمة كبرى أو حروباً فتّاكة».
تأثّر لبنان بثورات «الربيع العربي» بتعرّضه لأزمات سياسية حادة أحياناً ولأحداث أمنية وعسكرية خطيرة تمّت السيطرة عليها في غالبيتها سواء على الحدود اللبنانية ـ السورية أو في الداخل، ولكن كل هذه الازمات والمخاطر لم تهدد الصيغة اللبنانية على رغم من تمحور القوى السياسية خلف المحاور المتنازعة على الساحتين العربية والدولية.
اما الدول التي ضربها «الربيع العربي» فتعرضت لتدمير مُمنهج بشراً وحجراً، الأمر الذي ستبقى تعانيه لعشرات السنين، لأنّ ربيعها كان وبالاً عليها في كل مجالات حياتها.
على أنّ التذكير بكلام المرجع اللبناني عن لبنان وإمكان تأثره بـ«الربيع العربي»، هو لمناسبة الاحداث الجارية في الجزائر والسودان، وتصاعد الاحداث في ليبيا التي لم ينته «ربيعها» فصولاً بعد.
فمع انطلاق الاحداث قبل اشهر في كل من الجزائر والسودان، والتي انتهت حتى الآن بتنحّي أو بتنحية الرئيسين الجزائري عبد العزيز بو تفليقة والسوداني عمر حسن البشير، يتخوّف كثيرون من «ربيع» يضرب هذين البلدين فيصيبهما المصير نفسه الذي لقيته بقية الدول، خصوصاً تلك التي أُطيح رؤساؤها وكان لها ما كان من أزمات متوالدة على كل المستويات ولم تستقر تماماً بعد.
يظن كثيرون انّ ما يجري في الجزائر والسودان هو «الطبعة الثانية» لِما سمّي «الربيع العربي»، وانه بدأ تنفيذها في هذين البلدين لتشمل لاحقاً بلداناً عربية وربما افريقية أخرى لم يشملها «الربيع» بـ«معيّته» في طبعته الاولى، التي جاءت نتائجها كارثية على كل البلدان التي حلّت بها، وعلى العالم العربي خصوصاً والعالم عموماً.
قبل اشهر او اسابيع قليلة إنطلق حراك مدني وسياسي في الجزائر وَصفه البعض أنه «حضاري»، وانتهى بتنحية بو تفليقة البالغ من العمر 82 عاماً الذي أصرّ على الترشّح لولاية رئاسية تدوم 5 سنوات، ولكنه اضطر تحت ضغط الحراك الى إعلان عدم رغبته بالترشيح، ومن ثم اضطر الى التنحّي تحت ضغط هذا الشارع، بغضّ النظر عن القوى التي تقف خلف الحراك الجزائري في هذا المضمار.
وبعد اشهر واسابيع قليلة من الحراك الشعبي والسياسي السوداني، تمّت تنحية البشير ووضعه في الاقامة الجبرية، وعَزل نوّابه وحلّ الحكومة وإقامة هيئة حكم انتقالية لمدة سنتين، الى حين وضع دستور جديد وإقامة نظام جديد للسودان لا يمكن التكهّن بطبيعته منذ الآن.
إلّا أنّ الفارق بين الجزائر والسودان، هو انّ بوتفليقة ينتمي الى ثقافة وطنية حيث كان رئيساً لـ«جبهة التحرير الوطني» الجزائرية وأطول الرؤساء الجزائريين حُكماً (20 عاماً)، وهو الرئيس العاشر للجزائر منذ التكوين والثامن منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.
في حين انّ البشير ينتمي الى تنظيم «الاخوان المسلمين» ورئيس حزب «المؤتمر الوطني» ذو الفكر «الإخواني»، وكان قد استولى على السلطة بانقلاب عسكري عام 1980 أطاح فيه الحكومة الديموقراطية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وجمع في رئاسته للسودان بين منصبَي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، بحيث انه كان يحصر السلطة بشخصه فقط.
ويقول خبراء في هذا السياق انّ ما حصل في الجزائر والسودان ليس إطلاقاً «طبعة ثانية» لِما سمّي «الربيع العربي»، وإنما هو «طبعة ثانية» للنموذج المصري الذي جاء بالفريق عبد الفتاح السيسي الى الرئاسة المصرية بعد إطاحة الرئيس «الإخواني» محمد مرسي الذي جاء الى الرئاسة المصرية بعد إطاحة الرئيس حسني مبارك، وهذا النموذج يقوم على إعادة التجديد للنظام القائم بوجوه جديدة، ويقطع الطريق امام اي تغيير حقيقي، بمعنى انّ ما حصل في الجزائر والسودان هو انّ النظامين جدّدا أو سيجددان لنفسيهما.
لكنّ الخطير في الحراكين الجزائري والسوداني انهما ينطويان على محورين: في السودان يبرز المحور القطري ـ التركي ـ «الإخواني» في مواجهة المحور الاميركي وحلفائه العرب والغربيين.
وهذا الاستقطاب الذي يشهده السودان يحاول الداخلون على خط الحراك في الخرطوم نقله الى الجزائر، إلّا انّ هناك 3 عوامل مختلفة في الساحة الجزائرية، تحول دون ذلك:
– أوّلها، العامل الفرنسي الحاضر بقوة على الساحة الجزائرية.
– ثانيها، رسوخ فكرة الدولة الوطنية في الجزائر على عكس الوجود الهَش لمثل هذه الدولة في السودان.
– ثالثها، انّ الجزائر دولة مؤثرة في الاقليم، فلولا ما حصل في الجزائر، لَما كان القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر، المعارض لحكومة «الوفاق الوطني» برئاسة فايز السرّاج، هاجَم في ليبيا وسيطرَ على العاصمة طرابلس الغرب، لأنّ الجزائر كانت تقيم في الأمر خطاً أحمر قبل تنحّي بوتفليقة. وهي كانت لعبت دوراً في حماية تونس من تداعيات الأزمة الليبية.
على انّ الخطر في المشهدين السوداني والجزائري هو انّ فيهما التفافاً على الحراك الشعبي في البلدين وليس استجابة له، لأنّ الدولتين هما من اكبر الدول مساحة في الوطن العربي، وتختزنان ثروات هائلة زراعية وبترولية ومعدنية، وهما من الانظمة الجمهورية التي تجاوزت استحقاق ما سمّي «الربيع العربي»، حيث يؤدي الجيش في كل منهما حتى الآن دوراً رئيساً، وما حصل حتى الآن فيهما هو النموذج المصري، إلّا إذا طرأ في قابل الايام والاسابيع ما يدفع الى نموذج آخر يتّضِح ما ستؤول إليه طبيعة النظام في كل من البلدين.