أمام “مسرح المدينة” في شارع الحمرا اخترتَ يا علي الهق وضع حدِّ لحياتك. لم تشأ ان تموت طاوياً صامتاً في مسقطك الهرمل او بمنزلك في الضاحية. أردتَ المشهد كاملاً: بطلٌ في حركة مفاجئة صادمة، ديكور طبيعي متحرك، ومشاهدون تلقائيون لا يملكون ثمن البطاقة.
أنت “بطل” يا علي. قد لا يغريك اللقب أو يغنيك. متعلّقاتك بسيطة: كرتونةٌ دوّنت عليها “أنا مش كافر”، وعلمٌ لبناني دثَّرت وجهَك فيه. أقسى أنواع الاحتجاج السلمي مارستَ. لم تلقِ حجراً على مقرّ، ولم تكسر زجاج مصرف، ولا شتمت سكان البروج العاجية “المقدّسين”. لم تشعل دولاباً لقطع طريق، ولا مارست عنفاً ضد من جوَّع عائلتك. تلك كانت حقوقَكَ رغم أنف السلطة وأولياء أمرها وميليشياتها، بيد أنّك فضَّلتَ العبور فرداً فريداً الى لقب “الضحية المُثلى”، أو “الشهيد المنتحر” بسلميةٍ وسلام.
قبل رصاصتك اليتيمة لم نكن نعرفك يا علي. لكنّك بانتحارك المهيب أمسيت رمزاً للثورة على “منظومةٍ فاسدة” احتلت دولتنا وحوَّلت مؤسساتها وحلال مواطنيها أشلاءً وأسلاباً، ودفعت شعبنا الى ذلّ مقيم ويأس عميم حتى الانتحار شنقاً أو رصاصاً.
يا علي، لا نعلم ماذا قصدتَ من اختيارك للمكان. هي الصدفة جعلتكَ صريع شارع الحمرا. لكنها إعلانٌ صاخب ضد “لبنان” نعيشه مِن مكانٍ يذكّرنا بلبنان مرَّ كالحلم ونحنُّ إليه مُشرقاً بتلاقي مواطنيه وغنياً بجامعاته وعجقة العرب واللغات في مقاهيه. تلك نوستالجيا، ولعلّها واحدة من رسائل الرصاصة التي فجَّرتَ بها دماغك على ناصية الرصيف.
لم تقتل نفسكَ يا علي. نحن شهودُك أمام التحقيق براحة ضمير. قتلتكَ “المنظومة – العصابة” التي نهبتنا طوال ثلاثين عاماً. قتلتكَ شراهة الزعامات والطوائف والمحاصصة المقزّزة. قتلك تحالف الطبقة السياسية مع النظام المصرفي والسلاح غير الشرعي.
يا علي… ليت الرصاصة ذهبت الى المكان الصحيح. رأسُك القلق يستحقُّ اغفاءة في حضن حبيب. أما رؤوسهم فملأى بالتآمر على الوطن وأبنائه وأمواله وسيادته ومستقبل أجياله.
أنقول لك يا علي: “أرقد بسلام ونَمْ قرير العين؟” كلا. بل نقول: “إحفظْ دمَكَ طازجاً على جمر انتظار شعبك ووعد خلاص مواطنيك. شهادتكَ الاستثنائية جزءٌ من ضريبة دمٍ دفعها شعبنا ضدّ ظالمين عابرين واحتلالاتٍ أقامَت واندحرت، لكن أمضَّها احتلال ذوي القربى بمنظومة فسادٍ استباحت أيامنا ودماءنا والقوانين، سارقةً لقمة عيشك وانتحرتكَ على مرأى من الناس… وهي إلى اندحارٍ أكيد…