من حكايات لبنان السياسية المنسية إصبع دوجوفنيل تحدد أول رئيس جمهورية
والمندوب السامي يعلّق الدستور خوفاً من الجسر
منذ أن أصبح للبنان رئيس للجمهورية في العام 1926، كان هناك السياسيون وأصحاب الطموحات في المراكز الأولى، بحيث إنهم لم يتركوا وسيلة للوصول إلى غاياتهم قبلها؛ على زمن القائمقاميتين، وفي زمن نظام المتصرفية في الجبل، كانوا كذلك أيضاً، حيث كان الحج السياسي إلى عند القناصل، خطة لتحقيق الهدف، وقبل ذلك أيضاً، كان هناك التشاطر عند الوالي العثماني والبعض ظهر أكثر عثمانية من الوالي نفسه.
لنعُد إلى أول رئيس للبنان حينما اتجهت اصبع المفوض السامي الفرنسي هنري دو جوفنيل باتجاه شارل دباس.
كان الدستور اللبناني، تم التصديق عليه في 19 أيار 1926 واحتفالاً بهذه المناسبة أقام نقولا بسترس في قصره المنيف في الأشرفية حفل عشاء كبيراً، وبدت خلاله كل أقسام وردهات القصر البسترسي وكأنها تحتفل بالمناسبة، ففي طابق كانت الفرق الموسيقية تعزف ألحانها الشجية، وفي مكان آخر كانت الراقصات الشرقيات يتمايلن بخصورهن أمام الحضور.. المأخوذين بأبّهة المكان وأجواء الفنون الجميلة المختلفة.. فيما طاولات الطعام تضم نخبة السياسيين اللبنانيين والانتداب الفرنسي.. وعلى إحدى الطاولات كان هناك الكثيرون من الطامحين للكرسي الأولى، كان هناك: أيوب ثابت، إميل اده، حبيب باشا السعد ووجهاء من آل ملحمة، التويني، شهاب، بسترس، وبينهم كان ناظر العدلية شارل دباس المولود في دمشق، والمتزوج من ممرضته الفرنسية «مارسيل».
فجأة، قام دو جوفنيل يتنقل بين الحضور يتهامس مع ذاك، يبتسم على تلك الطاولة، ويفرح الحضور لابتسامته.. وهكذا دواليك، ليتوقف فجأة أمام كبرى الطاولات فيرفع نخب كأس دستور لبنان ويرد الجميع التحية برفع كؤوسهم.
بعدها يعلن بصوت عال: الجلسة المقبلة للمجلس النيابي لانتخاب رئيس جمهوريتكم، يطرب الجميع، بعضهم تتسلط عيونه على أكبر مسؤول فرنسي في لبنان، وتتسارع ضربات قلبه، فلربما ابتسم الحظ له.
ينظر دوجوفنيل في الوجوه الملتفة حول تلك الطاولة ويطرح عليهم سؤالا بسيطا هو : واحد زائدا واحدا كم تساوي، ويجيبه الجميع : إثنان، إلا واحد يرد بهدوء: كما يحددها فخامتكم.
فجأة، يصمت الجميع مع همسات هنا وهناك.. ويمد هنري دو جوفنيل إصبع يده اليمنى باتجاه الجهة اليمنى من الطاولة.. لا بل إلى أقصى الجهة اليمنى، ويقول: إن رئيسكم المقبل أيها السادة موجود بينكم.. وهذا هو رئيسكم.. ويستقر إصبع دو جوفنيل على شارل دباس الذي اعطى الجواب كما يريده المندوب السامي أي (كما يريدها فخامتكم).. ويكون فعلاً شارل دباس رئيساً للبنان في 26 أيار 1926.
الشيخ محمد الجسر والرئاسة
في العام 1929 كانت ولاية شارل دباس قد شارفت على نهايتها وبدأت العدة لانتخاب الرئيس الجديد، كان كثيرون ينتظرون إبهام المندوب السامي، لكن أبرز المتنافسين كان إميل اده وبشارة الخوري، وأدرك اده أن لا أمل له بالرئاسة، فكان لا بد له أن يلعبها ليبعد الآخرين من الموارنة، فكان أن همس لرئيس مجلس النواب الشيخ محمد الجسر ليرشح نفسه ووعده بدعمه وتأييده مع مناصريه من النواب، ومن المفارقات أن معظم النواب المسيحيين مع اده كانوا يؤيدون الجسر، فيما معظم النواب المسلمين كانوا مع ترشيح بشارة الخوري، أدركت المفوضية الفرنسية أن ترشيح الجسر ليس مناورة سياسية، خصوصاً بعد أن صار معظم النواب المسلمين يشاهدون الحماسة لدى الجماهير الإسلامية للترشيح وصاروا يتأثرون بهذا الواقع، وخصوصاً أن الجسر أقسم لمن يسانده من المسلمين وفي مقدمهم رياض الصلح أن لا يرجع عن ترشيحه.
وحاول النواب الموارنة: يوسف الخازن، سامي كنعان، روكز أبي ناصر إقناع المفوض بونسو بترشيح الشيخ الجسر الذي لا يرون فيه انتقاصاً من حق الموارنة لكنهم لم يفلحوا.
وفي 4 أيار 1929 يلتقي الشيخ محمد الجسر ونائب كسروان يوسف الخازن المفوض السامي الفرنسي، لإقناعه بترشيح الجسر، لكن بونسو ظل يهز رأسه بعلامة الرفض ويقاطع النائب الخازن الذي حاول إقناعه: «مستحيل.. مستحيل.. باريس لا تقبل، الكي دورسيه يغضب».
ويروي الرئيس صبري حمادة أن الشيخ الجسر كلفه استمزاج رأي المفوض السامي الفرنسي بترشيحه فقال بونسو بالحرف الواحد: «يا صديقي، ليست فرنسا هنا لتمتثل لإرادة الشيخ محمد، قل له ان يدعنا وشأننا».
“mon ami, la france n,est pas ici pour fair la volonte’ de Cheikh Mohammed, dites – lui des nous ficher la paix”.
ويصر الجسر على ترشيحه ما دامت الأكثرية تؤيده، وهنا يعمد بونسو بشطحة قلم في 9 أيار إلى إصدار قرار ل/56 القاضي بتعليق الدستور وحل مجلس النواب والتمديد لشارل دباس لثلاث سنوات جديدة، علماً أن بونسو كان أعلم البطريرك عريضة قبل يوم واحد بأنه سيحل المجلس النيابي ويوقف الحياة النيابية..