طريق سلسلة الرتب والرواتب تبدو نظرياً سالكةً في مجلس النواب اليوم، إنّما في جوهرها ليست آمنة تبعاً للتباينات السياسية، وتترك بالتالي كلّ الاحتمالات واردة حولها. وإذا كان النوّاب اليوم أمام لحظة الحقيقة والقرار حيال مسألة شديدة الحساسية مطلبياً ومالياً في آنٍ معاً، فإنّ الموازنة ما بين الأمرَين تبدو متعذّرةً إنْ لم تكن شديدةَ الصعوبة، ذلك أنّ القرار النيابي وكيفما مال، سواءٌ لصالح المطالبين بإقرار السلسلة أو لصالح المعترضين عليها والمحذّرين منها، ستترتّب عليه تداعيات وارتدادات ستَحكم المشهد الداخلي في المرحلة المقبلة.
ظلَّ الحديث عن تطوّرات أمنية وشيكة ضدّ المجموعات الإرهابية في جرود عرسال هو الطاغي، مع تزايدِ التسريبات عن خطوات ميدانية ستَظهر سريعاً، سبَقتها في الساعات الـ 48 الماضية إجراءات احترازية في عدد من القرى اللبنانية القريبة من تلك المنطقة، بالتوازي مع تجمُّع عناصر مسلحة وآليات في مناطق ليست بعيدة عن المناطق المرشحة للاستهداف، ما يعني أنّ الميدان، وكما أكّدت مصادر أمنية معنية لـ«الجمهورية»، قد دخلَ فعلاً مرحلة التسخين».
عون
تزامنَ ذلك مع جهوزية ملحوظة للجيش اللبناني في أماكن انتشاره، سواء في الداخل أو على الحدود، متجاوزةً كلّ الأصوات التي تحاول النيلَ منه والتهشيمَ بدوره في حماية الأمن والاستقرار وإحاطتَه باتّهامات لأخذِه إلى ساحة التجاذب حول عناوين بعيدة كلَّ البعد عنه.
وهو ما حذّرَ منه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، إذ لفتَ الى «أنّنا عشنا في اليومين الماضيين أزمةً تمثّلت بإلقاء تهمة زور على الجيش الذي يقدّم الشهداء لحماية لبنان من الإرهاب»، وتساءل: «كيف بإمكان الجيش ان يتساهل امام مِثل هذه المسألة، خصوصاً حين يتعامل مع من لا يتردّد بتفجير نفسه لإلحاق الأذى؟» معتبراً «أنّ التساهل في مثل هكذا واقعٍ من شأنه ان يُضاعف من إمكانية وقوع جرائم الإرهاب».
وجدّد التأكيد على «أنّ الحرب الاستباقية التي يقوم بها الجيش ضدّ الارهابيين، تتمّ دائماً بناءً على توجيهات السلطة السياسية برئاسة رئيس الجمهورية».
من جهته، أكّد وزير الداخلية نهاد المشنوق أنّ الجيش له كلّ الدعم من السلطة السياسية، وبالتالي لا يحتاج إلى تظاهرات داعمة له.
السلسلة
وعشية الجلسة التشريعية اليوم، واضحٌ أنّ السلسلة تقف على مفترق حسّاس، ظهرَت فيه كلّ القوى في وضعٍ مربَك تحاول تلمُّسَ مخرجٍ لمأزقِ السلسلة يَحول دون أن يترتّب على إقرارها أو عدمه أيّ تداعيات محتملة، فيما تعالت الدعوات إلى تحرّكات تصعيدية من بعض الأحزاب، كالكتائب الذي ينفّذ وقفةً احتجاجية اليوم، وأيضاً من حركات نقابية، ضدّ المنحى الضريبي الذي يمكن أن يقترن به إقرار السلسلة.
ولعلّ المأزق الذي بلغَته الامور حيال السلسلة، وأيضاً حيال المالية العامة للدولة وما تعانيه من عدم قدرةٍ على سدّ كلفةِ إدارة الدولة ومصالح الناس ولو بحدّها الأدنى، وعلى تحمُّلِ أيّ كلفةٍ أو أرقام أو مبالغ إضافية تُرهقها أكثر، هو أمرٌ طبيعي تتحمّل مسؤوليته السلطة الحاكمة نتيجة انعدام الرؤية الواضحة، والتقصير المزمن والإمعان في غضِّ النظر عن مكامن العجز الحقيقي لمالية الدولة، وفي إبقاء هذا المرض العضال يستعصي ويتفاعل أكثر.
وأمام هذا الواقع المحزن، لم تُقدّم السلطة ولو دليلاً واحداً على مبادرة صادقة وفاعلة أو رؤيةٍ للمعالجة لإنقاذ المريض، على رغم أنّ عناصر العلاج امامها لا تتطلب سوى المبادرة الى منعِ التهريب المتفاقم و«على عينك يا تاجر»، ووضع حدّ للفساد المستشري في الإدارة، والرشاوى في المؤسسات، وسدّ مسارب هدر المال العام المتجلّية تحديداً في المصروفات غير المجدية وجيش المستشارين والإيجارات الضائعة للدولة، و«الصناديق السوداء» عند بعض النافذين، والمصروفات السرّية غير المرئية، وغيرها كثير لا يُعدُّ ولا يحصى في الدوائر العقارية والضمان ومؤسسات أخرى، وصولاً إلى الإصرار على الصفقات المصلحية ووقفِ العمل غير المبرّر في صفقات تُربح الخزينة، على شاكلة ما كشفَه مرجع سياسي لـ«الجمهورية» حول مناقصة لإنشاء محطة عائمة لتخزين و«تغويز» الغاز الطبيعي، التي وافقت عليها الحكومة قبل سنوات، وما زالت معطّلة رغم أنّها توفّر ما لا يقلّ عن مليار دولار على الرصيد التجاري من استيراد الديزل والمعدّات المتعلقة بالمولدات الخاصة، ناهيك عن الأثر البيئي الإيجابي لها».
وبدلاً من العلاج، تلجأ الى المسكّنات، واستسهال مدّ اليد على جيوب الناس بفرضِ ضرائب عشوائية وغير مدروسة تُطاول بالدرجة الاولى الشرائح الفقيرة والمتوسطة وتولّد في الشارع اعتراضات وتصعيداً يتزايد التحذير منه عشية طرحِ السلسلة للإقرار وخشية تضمُّنِها مزيداً من الضرائب على الفئات الشعبية.
برّي
وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري أمام زوّاره: «كما سبق وقلت أنا ماشي بالسلسلة باعتبارها حقّاً لأصحابها طال انتظاره، وهي البند الاوّل، وعلى إقرارها يتوقّف كلّ شيء، وإن لم تقَرّ فكلّ شيء سيتوقّف».
وأتى كلام بري، بالتوازي مع الاجتماع الذي عقِد في السراي الحكومي برئاسة الرئيس سعد الحريري وحضور القوى السياسية الممثّلة في الحكومة، والذي بَرز فيه 3 محاور: محور يريد الموازنة قبل السلسلة (التيار الوطني الحر)، ومحور يريد الالتزام بسقف 1200 مليار دون زيادة (الحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل)، ومحور يريد السلسلة أوّلاً مع إضافة زيادة المتقاعدين ودرجات المعلمين، وسعى إلى تدوير الزوايا في معالجة هذه النقطة، ولا يمانع بالتجزئة («أمل» و«حزب الله»)، وبحسب مصادر المجتمعين، الاتّجاه الأقوى هو نحو الذهاب إلى التجزئة.
وعلمت «الجمهورية» أنّ هناك مسعى جدّياً لتقريب وجهتَي النظر من خلال مخرج يتيح العودة الى المادة 20 من السلسلة والتي تجيز لمجلس النواب فتح اعتمادٍ من خلال الموازنة، وبالتالي يسير المجلس بالمراحل الثلاثة معاً: أي السلسلة والموازنة وفتح الاعتماد.
وقالت مصادر المجتمعين لـ«الجمهورية»: «ما يختلف عن المرحلة السابقة في مناقشة الموازنة أنّ الكلّ يتعامل معها على أنّها ستقَرّ من دون مناورات، واتّفقت كلّ المكوّنات السياسية المشاركة في التفاوض حولها على خارطة طريق من ثلاث نقاط: حفظ الاستقرار المالي، حفظ الاستقرار السياسي، وإعطاء الحقوق لأصحابها.
وكشفَت المصادر أنّه سيُصار الى رفعِ كلفةِ السلسلة التي ستتضمّن حقوقَ المتقاعدين مقسَّطةً على 3 سنوات بحيث تتراوح بين 1200 و1600 مليار.
النازحون
تزامنَ ذلك، مع بقاء النار مشتعلةً تحت ملفّ النازحين السوريين الذي بلغَت أثاره على لبنان المستوى الأعلى في الضغط والسلبية على كلّ فئات الشعب اللبناني، وهو ما يَجري التحذير منه على غير صعيد، وفي المقدّمة بكركي التي تتعالى صرخاتها لمعالجة هذا الملف والحدّ من سلبياته.
وعلى وترِ ملفّ النازحين عزَف النائب وليد جنبلاط بتغريدة رفضَ فيها التظاهرات حول موضوع النازحين داعياً إلى التمييز بين الإرهاب واللاجئ السوري، وتساءلَ: «من قال إنّ المخابرات السورية بريئة وقد تريد صدام الجيش مع اللاجئين عشوائيا»؟
وتحدّثَ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع عن توتّرات بين النازحين السوريين واللبنانيين، إلّا أنّها «ليست عنصرية بل تتعلّق بالوضع الاقتصادي». ودعا الى عدمِ تسييس الموضوع «لكي لا يتمّ أخذُ قرارٍ سياسي نحن بغِنى عنه»، معتبراً أنّ «أيّ تسييس للموضوع وأيّ طرحٍ لفتح علاقات من جديد وتوسيع العلاقات مع النظام السوري، من شأنه عرقلة عودةِ النازحين».
«القوات» وريفي
وفي سياق قوّاتي آخر، استغرَب مصدر في «القوات اللبنانية» دعوةَ اللواء أشرف ريفي «القوات» إلى «إعادة تقييم الجدوى من استمرارها في حكومة تضع رأسَها في رمال الوصاية الإيرانية»، وقال لـ«الجمهورية» إنّ ريفي «يدرك أكثر من غيره أنّ «القوات» لم تبدّل يوماً في مقاربتها الوطنية الاستراتيجية وعنوانُها بسطُ سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية»، ودعا «الصديق ريفي إلى التمييز بين خطابه الانتخابي المفهوم والمبرّر، وبين حرفِ الوقائع من خلال تظهير الحكومة بكونِها أداةً إيرانية، فيما المشاركة القواتية الوازنة أظهرَت وتُظهِر أنّ هناك توازناً فعليا داخل الحكومة»، وذكّرَت بأنّ جعجع «كان أوّلَ من ردَّ على موقف السيّد حسن نصرالله الداعي إلى فتحِ الحدود، وسجّلَ وزراء «القوات» اعتراضَهم على هذا الكلام وهجومه المتكرر على السعودية على طاولة مجلس الوزراء».
ورأى المصدر «أنّ الأولوية في المرحلة الحالية احتواء الأزمة مع استمرار كلّ طرفٍ على ثوابته بانتظار أيام أفضل، و«القوات» ليست موجودةً في الحكومة لمكاسب سلطوية، بل لأهداف وطنية على مستوى القضية السيادية ومواضيع مكافحة الفساد وانتظام المؤسسات وإدارة الدولة».
وقال إنّ اللواء ريفي «تَساكنَ مع «حزب الله» عندما كان في قوى الأمن والتنسيق الذي فرضَته ضرورات المرحلة، وعندما شارَك أيضاً في الحكومة، فيما الأولوية اليوم الحفاظُ على الاستقرار وتوسيع مساحة حضور الدولة ودورها في ظلّ ربطِ نزاع استراتيجي مع الحزب»، ورأى «أنّ وضع الدولةِ اليوم أفضلُ بكثير مما كان عليه قبل الانتخابات الرئاسية».
وأكّد «أنّ مَن يقود المواجهة سابقاً وراهناً ومن سيخوضها في المستقبل هو «القوات»، ودعت «الأصدقاءَ المختلفين معها في الرأي إلى وقفِ المغالاة، كونها لزومَ ما لا يلزم».
على صعيد آخر، أوضَحت وزارة الطاقة والمياه في بيان أمس «أنْ ليس هناك خلافٌ بين الوزير ومدير عام الاستثمار يستأهل الضجّة التي أثيرَت حوله»، معتبرةً «أنّ الوزير هو رأسُ الإدارة التي يوجب القانون أن تعمل بموظفيها بشكل منتظم وفق القوانين والأنظمة المرعية».