بدا من المواقف وردّات الفعل على ما جرى ويجري أنّ الأزمة بين بعبدا وعين التينة وتالياً بين التيار الوطني الحر وحركة «أمل» ما تزال على غاربها إلى درجةٍ ذهبَ معها البعض إلى القول: «إشتدّي يا أزمة.. وانفجِري»، بدلاً من أن يكون اشتدادها إيذاناً بانفراجها، بدليل أنّ الشارع عاد إلى التحرّك رغم «الدعوات إلى التسامح»، ما دفعَ المراقبين إلى الحديث عن حاجة الوضع إلى مبادرة حَكَم تدفع الجميعَ إلى الهدوء ومعالجةِ ما حصَل لأنه يهدّد البلاد بأزمةٍ مستطيرة في حال استفحالها. وقالت مصادر واسعة الاطّلاع لـ»الجمهورية»: «ليس المطلوب من القوى السياسية على اختلافها التضامن مع هذا الفريق أو ذاك، وإنّما المبادرة إلى الجمع بين المختلفين لحلّ الأزمة وتجنيبِ البلاد الفتنة».
سعى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعد صمتٍ ليومين إلى تطويق ذيول ما جرى من موقعِه «الأبوي»، فاعتبَر «أنّ ما حدث البارحة على الصعيدين السياسي والأمني، أساء إلى الجميع وأدّى إلى تدنّي الخطاب السياسي إلى ما لا يليق باللبنانيين».
وقال: «إنّ ما حصَل على الأرض خطأ كبير بُنيَ على خطأ». وقال: «مِن موقعي الدستوري والأبوي أسامح جميعَ الذين تعرّضوا لي ولعائلتي، وأتطلّع إلى أن يتسامح أيضاً الذين أساؤوا إلى بعضهم البعض، لأنّ الوطن أكبر من الجميع، وهو أكبر خصوصاً مِن الخلافات السياسية التي لا يجوز أن تجنحَ إلى الاعتبارات الشخصية، ولا سيّما أنّ التسامح يكون دائماً بعد إساءة».
ودعا القيادات السياسية إلى «الارتقاء إلى مستوى المسؤولية لمواجهة التحدّيات الكثيرة التي تحوط بنا، وأهمّها المحافظة على الاستقرار والأمن والوحدة الوطنية، وعدم التفريط بما تحقّقَ من إنجازات على مستوى الوطن خلال السنة الماضية، والتي كانت من الأسباب المباشرة للرعاية الدولية التي يلقاها لبنان في المؤتمرات المرتقَبة لدعمِ أمنِه واستقراره واقتصاده ومساعدتِه على حلّ معاناة النازحين السوريّين فيه».
وقالت مصادر واسعة الاطّلاع لـ«الجمهورية» في معرض تفسيرها لهذا البيان الرئاسي إنّ عون الذي أمضى يومين يراقب التطوّرات التي تلت نشرَ الفيديو الذي تضمّن كلامَ الوزير جبران باسيل المسيء لبرّي، «شاء أن يطلقَ ما يُشبه النداء لاستيعاب الأحداث وامتصاصِ ردّات الفعل ومنعِ تفاقمِها ووقفِ أجواء الشحن والفوضى التي شهدها بعض المناطق».
وأضافت: «ما قصَده رئيس الجمهورية هو وضعُ حدّ لكلّ ما يجري في الشارع في أسرع وقت ممكن، لإفساح المجال أمام المعالجات الهادئة عبر الأطر المؤسساتية والدستورية».
«الحزب»
وعلمت «الجمهورية» من مصادر موثوقة أن لا وسطاء حتى الآن على خط معالجة الأزمة، ولم يتبرّع أيّ طرف بعد بتقديم نفسِه وسيطاً حتى من أقرب حلفاء الطرفين، لأنّ المسألة كما تبدو عميقة جداً وأصعبُ من أن تُحلَّ بسهولة، نظراً لعمقِ التباعد بين منطقَي عون وبرّي.
ولوحِظ أنّ البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية وبيان تكتّل «الإصلاح والتغيير» «لم يجدا صدىً إيجابياً عند بري وكذلك عند «حزب الله» الذي كان يأمل بـ«موقفٍ يجمع».
وإذ سألت «الجمهورية» معنيّين في «الحزب» حول هذين البيانين فلم يوحوا برضى بل آثروا عدم الجواب «لأنّ الوضع حسّاس».
وقالت مصادر مواكِبة للأزمة لـ«الجمهورية»: «إنّ إمكانية الحَلحلة يمكن أن تتعزّز بمحاولة للتوصّل إلى عقدِ لقاء بين عون وبري، لكنّ العقدة هنا كيف سيتمّ جمعُهما؟ ومَن هي الجهة الضامنة لهذا اللقاء أو التي يمكن أن تنجح في إقناع الطرفين بالجلوس معاً؟ علماً أنّ هناك مناسبة عيد مار مارون في 9 شباط وقد تُشكّل محطة لقاء بين عون وبري الذي استغرَب ما سُرِّب عن أنّه لن يشارك في هذه المناسبة.
وفي هذا السياق طُرحت إمكانية مبادرة الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله في هذا المجال. إلّا أنّ أوساط الحزب استغرَبت هذا الطرح وأكّدت لـ«الجمهورية» أن «لا شيء من هذا وارداً».
وحول ما إذا كانت الأيام المقبلة ستشهد كلمةً للسيّد نصرالله يتناول فيها الوضعَ ويُشخّص الأزمة ويطرح حلولاً لها، لم تؤكّد مصادر الحزب هذا الاحتمال. إلّا أنّها لم تستبعد أن يتناول نصرالله هذه الأزمة في خطابه الذي سيلقيه في الاحتفال بذكرى القادة الشهداء في 16 شباط، أي بعد يومين من ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي يُنتظر أن تشهد كلمةً لرئيس الحكومة سعد الحريري.
برّي
وإلى ذلك، ظلّ برّي ملتزماً الصمتَ حيال الأحداث الأخيرة والمتسارعة، ورَفض أمام زوّاره أمس التعليقَ على بيانَي عون وتكتّل «التغيير والإصلاح» مكتفياً بالقول: «لا تعليق».
وأضاف في توصيفه لما يَجري: «إنّ أخطر ما يحصل أنّ هناك من لم يغادر مرحلة ما قبل «الطائف»، يُراد فعلاً نسفُ «الطائف» والدستور وخلقُ أعراف جديدة، ولا يتوقعنّ أحد أنّني أنا نبيه بري قد أقبل بذلك أو بتثبيت هذه القواعد والأعراف المخالفة للدستور، أنا أحافظ على مصلحة البلد، كلِّ البلد، وليس على مصلحتي الشخصية».
التكتل و«التيار»
في غضون ذلك، عَقد تكتّل «التغيير والإصلاح» اجتماعاً استثنائياً في المقر المركزي لـ»التيار الوطني الحر» في سنتر ميرنا الشالوحي، برئاسة رئيس «التيار» الوزير جبران باسيل، وسط إجراءات أمنية مشدّدة.
وأكّد «التكتل» أنّ ما حصل مع باسيل «في لقاء غير علنيّ، تمّ استدراكه من قبَله، من دون طلبِِ مِن أحد، من خلال تعبيره عن أسفِه، وهو ما يرتبط بقناعاته وأخلاقياته وأدبيات التيار». وأعلن التكتل تجاوبَه مع مطلب رئيس الجمهورية وطلبه التسامح في ما يتعلق بالاعتداء على المقر العام لـ«التيار» وردّات الفعل في الشارع».
واعتبَر «أنّ الكرامات متساوية، وأنّ اللبنانيين متساوون في حقوقهم وواجباتهم، وأن يكون هناك احترام لحرمةِ المواقع والأملاك العامة والخاصة، وأنّ الدولة هي التي تحمي الجميعَ وتعطي الجميع حقوقَهم بالوسائل الديموقراطية والقانونية والقضائية. وإذا كانت هناك من عبرة ممّا حصَل، فهي أنّ الطريق الوحيد للحفاظ على كرامة الجميع والوصول الى نتائج، هي من خلال المؤسسات وطريق القانون والأصول».
وعن المطالبة بالاعتذار، أشار التكتّل إلى «أنّ البيان واضح، وقد سرَدنا فيه كلّ المواقف والمبادرة الذاتية لرئيس التيار من دون طلب من أحد، والتسامحَ الذي أبديناه مع الاعتداء الذي حصَل أمس، والمشهد الذي حكم عليه اللبنانيون، والملفّ بالنسبة لنا انتهى».
«التيار» لـ«الجمهورية»
وقالت مصادر بارزة في «التيار الوطني الحر» لـ«الجمهورية»: «إنّ «التيار» مع إنجاح مبادرة رئيس الجمهورية لأنّها تحفَظ كرامة الجميع وتؤمّن مصلحة لبنان ومصلحة الدولة التي هي في حاجة الى استكمال عملِها الدستوري والإداري بشكل طبيعي». وأكّدت أنّ موقف «التكتل» جاء «تجاوباً مع طلب الرئيس عون التهدئةَ والتسامحَ والارتقاءَ الى مستوى المسؤولية في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعد الاعتداءات التي تعرّض لها المقر العام لـ«التيار» والمواطنون في الشارع، وما رافقَها من إهانات وشتائم وتهديدات».
وأشارت الى أنّ مشهد أمس الأوّل «تخطّى «التيار» وجمهورَه ومناصريه وشدَّ عصَبهم وانعكسَ التفافاً من كلّ قواعده حول رئيسه، إذ إنّ الأذى المعنوي الذي تعرّض له «التيار» والكلامَ الجارح الذي طاوَله، عزّز وحدتَه أكثر فأكثر». واعتبَرت «أنّ الكرة باتت الآن في ملعب حركة «أمل» المُطالَبة بموقف مسؤول بحجمِ التحدّيات التي يواجهها لبنان وشعبُه».
«القوات»
وقالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: «إنّ المطلوب في هذه اللحظة بالذات العودة إلى الحوار ولجمُ التصعيد السياسي على الأرض والذي خرج عن حدوده في اليومين الماضيين، لأنّ المصلحة اللبنانية العليا تستدعي من الجميع الحفاظَ على التهدئة السياسية والابتعادَ عن لغةِ الشارع وإبقاء الخلافات تحت سقف المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدَها بتطويق الأزمات السياسية ومعالجتِها».
وشدّدت المصادر «على أنّ الانتظام العام يشكّل مصلحةً لجميع اللبنانيين، فيما لا مصلحة لأحد في تقويض الاستقرار القائم، كذلك إنّ الحاجة اليوم إلى إعادة الأولوية للانتخابات النيابية التي ينتظرها اللبنانيون بفارغ الصبر في ظلّ قانون يتيح لكلّ لبناني أن يساهم في هندسة المرحلة المقبلة تعزيزاً لدور الدولة وحضورِها وفعاليتِها».
وكان رئيس حزب «القوات» سمير جعجع قد أكّد «أنّنا لا نستطيع أبداً التغاضيَ أو السكوت عمّا جرى في شوارع بيروت والمتن»، موضحاً أنّ «تقديرَنا لرئيس مجلس النواب نبيه برّي معروف، ولكنّ هذا شيء، واللعب بالانتظام العام والنَيل من الاستقرار في لبنان والعبثَ بالأمن شيءٌ آخر مختلفٌ تماماً». وقال: «لا نستطيع أن نقبلَ ما حصَل في الشارع، لأنّه انتهاكٌ صريح لمنطقِ الدولة ووجودها.
إنّه تعدٍّ مباشَر على حقوق المواطنين الذين لا ذنبَ لهم في كلّ ما جرى ويجري». وطالبَ الأجهزة القضائية والأمنية بـ«وضعِ يدِها بمنطقٍ عادل وسليم، منطقِ دولةٍ فِعلي، على حوادث البارحة، واتّخاذ كلّ الإجراءات اللازمة لكي لا يتكرّر انتهاكُ الأمنِ والاستقرار ووجودِ الدولة في لبنان عند كلّ حدثٍ أو أزمةٍ سياسية».
«الكتائب»
من جهته، قال مصدر كتائبي مسؤول لـ«الجمهورية»: «إنّ السلطة السياسية مدعوّة إلى اتّخاذ قرار حاسم بضبط الشارع وتكليفِ القوى العسكرية والأمنية الشرعية فرضَ القانونِ وضمان سلامة المواطنين وممتلكاتهم وحرّية التنقّل».
واستغرَب المصدر «تفرُّجَ السلطة السياسية على حالة الفلتان والتسيّبِ الأمني في بيروت وجبل لبنان والجنوب والبقاع»، محَذّراً «مِن الفوضى التي تلحق الأذية بمصالح المواطنين والدورة الاقتصادية المأزومة أصلاً». وسأل: «أين هو الاستقرار الذي وعَدنا به أركانُ التسوية؟ وهل بسلطةٍ عاجزة كهذه يُحكَم لبنان وتقوى الشرعية وتدور عجَلة المؤسسات؟».
أوساط كنَسية
وفيما قالت مصادر بكركي لـ«الجمهورية» إنّ «البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي سيترأس شخصياً قدّاس عيد مار مارون في 9 شباط المقبل في بيروت، في حضور رئيس الجمهورية، فيما الدعوات وُجّهت أيضاً إلى رئيسَي مجلس النواب والحكومة وأركان الدولة، أكّدت أوساط كنَسيّة لـ«الجمهورية» أنّ «الوضع اللبناني غيرُ سليم، وكأنّ قدَر لبنان أن يعيش الأزمات المتتالية وأن لا ينعم بالاستقرار الذي يتوق إليه أبناؤه».
ودعَت هذه الأوساط الجميعَ إلى «الابتعاد عن لعبة الشارع، لأنّها لعبة خطيرة، تَعرف أين تبدأ ولا تعلم كيف تنتهي». وطالبَت الجيش والقوى الأمنية بـ«التدخّل لمنعِ مظاهِر الفلتان وقطعِ الطرقِ والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة». وشدّدت على «معالجة الملفّات والقضايا الخلافية بالحوار، وضِمن إطار المؤسسات، وليس عبر التهديد والوعيد واستعمال لغة الشتائم التي لا تُعبِّر عن صورة لبنان الحضارية».
«المستقبل»
وأسفَت كتلة «المستقبل» بعد اجتماعها برئاسة الحريري «لِما آلت إليه مستويات التخاطب السياسي في البلاد، والتي بلغَت حدوداً غيرَ مقبولة ومنها التعرّض لكرامات الرئاسات والقيادات على مواقع التواصل الاجتماعي، مشدِّدةً على «مسؤولية كافة الجهات المعنية عن ضبطِ هذا الفلتان اللاأخلاقي الذي يسيء لصورةِ لبنان ويؤجّج الخلافات وما تستجلبُه من أضرار على السِلم الأهلي في البلاد واستقرارها».
ورأت «في العودة إلى استخدام الشارع وسيلةً للاعتراض على المواقف أو لبَتِّ الخلافاتِ السياسية، أسلوباً غيرَ مقبول ومِن شأنه إفساح المجال للمصطادين في المياه العكرة، ويعرّض سلامة المواطنين لأخطارٍ يجب تجنُّبها».
لا مجلس وزراء
وتزامُناً مع كلّ هذه التطوّرات بات واضحاً أنّ جلسة مجلس الوزراء تحوّلت أولى ضحايا التوتّر السائد، فغابَت الترتيبات الخاصة بجدولِ أعمالِ هذه الجلسة منذ بداية الأسبوع.
وقالت مصادر واسعة الاطّلاع لـ«الجمهورية» أنْ لا جلسة للمجلس هذا الأسبوع بسببِ زيارةِ الحريري لتركيا، والتي بدأها مساء أمس. لكنّ الأسباب الحقيقية تعود إلى تريّثِ رئيس الحكومة في توجيه الدعوة إلى الجلسة، في انتظار معالجةِ الأزمة الناشئة بين «أمل» و«التيار».
وعن مصير جلسة المجلس الأعلى للدفاع التي كانت مقرَّرة الإثنين الماضي، قالت المصادر إنّ هذه الجلسة أُلغيَت ولم يحدَّد أيُّ موعد لجلسة جديدة.