إستحوذ الطلب الروسي من لبنان بتحويل مسار رحلاته الجوية بسبب مناورات بحرية في البحر المتوسط بكل الاهتمام السياسي، فأضحت كل الملفات الأخرى، على أهميتها، ثانوية، نظراً للطابع المفاجئ للقرار، وفي ظل الخشية التي برزت في الساعات الأولى من أن يؤدي هذا الطلب إلى عزل لبنان عن العالم، لأنّ مسارات الرحلات الجوية التي يعتمدها لبنان محدودة بسبب الحرب السورية من جهة، والعداء مع إسرائيل من جهة أخرى، ولكن سرعان ما تبدّد الالتباس مع إعلان إدارة الطيران المدني اللبناني عن «سلوك مسار جوّي جديد بين لبنان وقبرص»، وإنشاء وزارة الأشغال «خليّة عمل طارئة لاتّخاذ الإجراءات اللازمة لضمان استمرارية حركة الإقلاع والهبوط في المطار وفقاً لشروط السلامة العامة»، وتأكيد المدير العام للطيران المدني بالتكليف المهندس ابراهيم ابو عليوى أنّ «حركة مطار بيروت ستسير بشكل طبيعي وعادي». وإذا كان المسار التقني تَحدّد وتوضّح، إلّا أنّ الالتباس الفعلي كان في الموقف الرسمي الذي لم يسارع إلى تطمين الشعب اللبناني، ولا إلى استدعاء السفير الروسي لاستيضاحه الخلفية الكامنة وراء طلب دولته. وإزاء كلّ ما يشهده لبنان من تطورات تأتي ذكرى الاستقلال الـ 72 حزينة في ظلّ الفراغ الرئاسي للسنة الثانية على التوالي وغياب العرض العسكري التقليدي والاستقبالات في القصر الجمهوري وفي لحظة أمنية دقيقة وسياسية مأزومة، الأمر الذي دفعَ بقائد الجيش العماد جان قهوجي إلى طمأنةِ اللبنانيين من خلال أمر اليوم بأنّه على ثقة بأنّ العسكريين «لن يسمحوا بإسقاط مؤسسات الدولة، وقادرون على مواكبة مختلف الاستحقاقات الدستورية والوطنية المرتقبة بجهوزية أمنية كاملة». واللافت هذه السَنة الملصَق الذي أطلقَته المؤسسة العسكرية في ذكرى الاستقلال، والذي جاء بتوجيه مباشَر من قائد الجيش، ويُجسّد روح الانفتاح التي تتحلى بها المؤسسة العسكرية، وحرصها البقاء على مسافة واحدة من جميع أبناء الوطن، وتأكيدها باستمرار بأنّها الحاضنة لكلّ اللبنانيين بمعزل عن مذاهبهم وطوائفهم وانتماءاتهم ومشاربهم.
ي تطور لافت في توقيته ومضمونه، تفاجأ لبنان ببرقية روسية وصلت من البحرية الى «هيئة الطيران المدني» في مطار رفيق الحريري الدولي تبلغها فيها انّها ستقوم بمناورات بحرية خلال الأيام القليلة المقبلة في عرض البحر، خارج المياه الاقليمية اللبنانية، ما قد يؤثر على حركة الملاحة الجوية في المنطقة عموماً واللبنانية خصوصاً. ومن هنا طالبَت البحرية الروسية من مديرية هيئة الطيران المدني في بيروت تحويل المسارات لمدّة 3 أيام ابتداءً من منتصف ليل أمس حتى انتهاء المناورات.
ورفضَ لبنان بدايةً هذا الأمر، كون المسارات الثلاثة التي يسلكها الطيران المدني تمرّ عبر المنطقة التي طلبَت روسيا حظرها جوياً. لكن بعد نقاشات واجتماعات ونصائح دولية ومحلية تلقاها الجانب اللبناني بالتجاوب مع هذه البرقية حفاظاً على سلامة طيرانه المدني لجأت مديرية الطيران الى مسار لا يُتّخذ إلّا في الحالات الطارئة كونه قريباً للأجواء الاسرائيلية. فطلب لبنان من السلطات القبرصية التواصل مع إسرائيل لتأمين سلامة هذا الخط 3 أيام وعدم التعرّض للطائرات. فنَقلت قبرص موافقة إسرائيل. علماً أنّ البرقية الروسية وصلت أيضاً الى قبرص وإيران وإسرائيل ومصر وتركيا.
زعيتر
وقال وزير الاشغال العامة غازي زعيتر لـ«الجمهورية» إنّ «لبنان أخَذ ضمانات من قبرص بأنّ إسرائيل لن تتعرض للطيران اللبناني ولن تجري مناورات على هذا الخط الجوي»، وتغيير المسار سيرتّب فقط تأخيراً محدوداً على بعض الخطوط الجوية».
وأضاف: «البرقية كانت مفاجئة تتحدّث عن مناورات بحرية من صفر الى 60 ألف قدم وتحظِّر الطيران في هذه المنطقة، وأمام لبنان حتى منتصف الليل لأخذ إجراءاته على مدة 3 أيام؟ فماذا نفعل في هذه الحال؟
لم يكن أمامنا سوى الرفض مباشرةً، تماما كما فعلت قبرص، وأرسلنا برقية احتجاج، ولكن عدنا وأوجدنا مساراً بديلاً بعدما أصرّ الجانب الروسي على طلبه، لعدم تعريض سلامة المسافرين للخطر، وأبدينا تعاوناً مع طلبه».
وأكّد زعيتر «أن لا أبعاد لهذا العمل سوى ما ذكرَته البحرية الروسية في برقيتها».
وزارة الدفاع الروسية
وفيما أوضحت وزارة الخارجية والمغتربين مساء أمس انّها لم تتبلّغ رسمياً من القنوات الرسمية الديبلوماسية الروسية موضوع الطلب، يُذكر أنّ وزارة الدفاع الروسية كانت أعلنَت قبل نحو شهرين إجراء مناورات عسكرية بحرية هذا الشهر، وقالت في بيان إنّ «ثلاث سفن حربية ستشارك في المناورات التي ستشهد إجراء أكثر من أربعين تدريبا»، وأوضحت أنّ «المناورات تشمل المدفعية والمضادات الجوية».
وبحسب وزارة الدفاع فإنّ الطرّادة قاذفة الصواريخ «موسكفا» التابعة للأسطول الروسي عبرت مضيق البوسفور للمشاركة في هذه المناورات التي تشمل أيضاً سفينة إنزال ومدمّرة. وهذه المناورات ستجرى بين مرفأ طرطوس السوري وقبرص.
زاسبكين لـ«الجمهورية»
وفي وقتٍ علمت «الجمهورية» أنّه لم يكن هناك أيّ تعليق من السفارة الاميركية في بيروت على الطلب الروسي، أوضَح السفير الروسي الكسندر زاسبكين لـ»الجمهورية» أن لا معلومات لديه حول هذا الموضوع، وأنه فوجئ بالخبر، وقد اطّلعَ عليه عبر الانترنت، ولم يمرّ عبر السفارة الروسية في لبنان، واستغربَه بشدّة، فهو قرار غريب ويلفّه الغموض بشكل كامل. وأكد أنّه لم يتبلّغ رسمياً من الدوائر الروسية بهذا الطلب، مشيراً إلى أنّه سعى للحصول على إيضاحات بشأنه».
مصدر عسكري رفيع
من جهته، أكّد مصدر عسكري رفيع لـ»الجمهورية» أنّ «قيادة الجيش تبلّغت هذا الأمر من الحكومة اللبنانية، ولم يحصل أيّ تواصل أو اتّصال عسكري مباشر بين الجيش والقيادة العسكرية الروسية أو إعطاء علم بهذا الموضوع».
وأشار المصدر الى أنّ «العملية عبارةٌ عن مناورة بحرية روسية، ولم تتبلّغ قيادة الجيش نيّة موسكو القيام بعملية جوّية على حدود السلسلة الشرقية الفاصلة مع سوريا، أو توجيه ضربات لتنظيمَي «داعش» والنصرة»، أو انطلاق الطائرات الحربية الروسية من حاملات الطائرات في البحر وخرق الأجواء اللبنانية لتنفيذ ضربات على الحدود أو داخل سوريا»، مؤكّداً أنّ «قبول إقفال الأجواء الجوّية أو عدمه يعود الى الحكومة اللبنانية».
الحوت
وأوضَح رئيس مجلس إدارة شركة «طيران الشرق الاوسط» محمد الحوت: «أنّ المسارات الجوية اللبنانية هي مِن مسؤولية الدولة في لبنان، وشركة «الميدل ايست» ستلتزم بأيّ قرار تتّخذه الدولة اللبنانية وستتقيّد به».
وبدورها أعلنَت «الميدل إيست» أنّه «استناداً إلى التعميم الصادر عن إدارة الطيران المدني اللبناني في شأن سلوك مسار جوّي جديد بين لبنان وقبرص، فإنّ كلّ رحلاتها ليوم غدٍ السبت (اليوم) ستقلِع في المواعيد المحددة لها كالمعتاد، وإنّ بعض الرحلات الجوية المتوجهة إلى دول الخليج العربي والشرق الأوسط» سوف تستغرق وقتاً أطول، بسبب سلوكها مسارات جوية جديدة».
صفيرلـ«الجمهورية»
وأوضَح الأستاذ في القانون الدولي المحامي الدكتور أنطوان صفير لـ»الجمهورية» أنّ القانون الدولي يفرض التعامل بين الدول عبر وسائل محدّدة، إمّا دبلوماسية أو قضائية، وفي حال وجود اتفاقات عامة أو ثنائية فإنّ هذا التعامل يتم وفق القنوات التي تحددها هذه الاتفاقات، ورأى أنّ هذا الطلب إذا كان أتى الى السلطات عبر مطار بيروت فإنّنا نكون أمام تعاطي روسي رسمي مع مرفق عام لبناني بلا المرور بالقنوات المتعارف عليها، وهنا تبقى المفارقة بأنّ هذا الطلب يأتي في سياق أمني عسكري، وبالتالي فهو يتعلّق بالأمن القومي اللبناني ويوجب بأن يكون الجيش اللبناني على بَيّنة منه لدراسته والتنسيق مع الجانب العسكري الروسي.
وفيما أوضَح بأن لا سابقة من هذا النوع على الصعيد الدولي، رأى أنّ الدول تطلب إقفال موانئ أو مطارات في أزمنة الحرب، في حين أنّ لبنان لا يعيش حال حرب، وإنْ كان متأثّراً بالحرب الدائرة في سوريا، ولفتَ الى أنّ لبنان ليس ملزَماً قانوناً بإجابة طلب روسيا، لكنّ الواقع السياسي والعسكري والاعتبارات الأدبية، تفرض موافقتَه، إنّما يبقى عليه أن يوازن بين هذه الاعتبارات وبين سيادته.
جنبلاط: لا نريد أن نصبح حيّاً من موسكو
وغرّد رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط عبر «تويتر»، قائلاً: «وفقَ آخِر أخبار الطيران المدني اللبناني، فإنّ الروس أبلغونا إقفالَ أجوائنا لثلاثة أيام لا أكثر ولا أقلّ، وهذا أتى بمثابة أمر. فهل الوزير باسيل على عَلم بهذا الأمر أم لا؟ يا لها من زيارة ناجحة لموسكو».
أضاف: «لا نريد أن نصبح حيّاً من موسكو، وهناك الحد الأدنى من احترام السيادة اللبنانية».
حمادة
وفي المواقف من الطلب الروسي، قال النائب مروان حمادة لـ»الجمهورية»: «ما ترتكِبه روسيا في حقّ دول الشرق المتوسط وعلى رأسها لبنان الذي ليس طرفاً في ايّ نزاع، هو فضيحة دولية يجب ان تحاسَب عليها عبر مجلس الامن، وطلب تعويضات، ونحاسب عليها داخلياً، عبر الحركة غير الموفّقة وشبه التآمرية التي قام بها وزير الخارجية جبران باسيل في موسكو وكلامه «الشاندي باندي». إنّ مجرّد ترويج خبر إغلاق الأجواء اللبنانية هو حصار لبَلد وشعب لم يسبق عليه أحدٌ إلّا العدوّ الاسرائيلي».
المصري لـ«الجمهورية»
وقال الأستاذ في القانون الدولي الأستاذ شفيق المصري لـ»الجمهورية»: «في المبدأ، لا يحق لأيّ دولة أنّ تَفرُض قرارها فرضاً على أيّ دولة أخرى، بصرف النظر عن نفوذها وعن الأجندة العائدة لها. ولكنّ هذا الأمر ممكن، إذا سبقته مشاورات مع السلطات المعنية في الدولة الثانية.
فإذا استُجيب لهذا الطلب، يُمكن في هذه الحالة ان يُعتبَر الموضوع قد حصَل بقبول رضائي من الدول المعنية. وإذا لم تقبل مثل هذه الطلب، لا يحقّ لهذه الدولة انتهاكَ السيادة الوطنية للدولة الثانية وإلّا يُعتبَر الموضوع تدخّلاً غير مشروع في سيادة الدولة. الآن بالنسبة لهذا الموضوع يتوقّف الأمر على مدى تجاوب أو رفض الحكومة اللبنانية».
عبد القادرلـ«الجمهورية»
وأكّد العميد المتقاعد نزار عبد القادر لـ«الجمهورية» أنّ «هذا القرار انتهاكٌ روسي لسيادة لبنان، ولا يجوز دولياً، لأنّ لبنان دولة مستقلة وليسَ منطقة عمليات للسلاح الجوي الروسي ولا لأيّ جهة أخرى كي تتداخلَ القوى الدولية فوق سمائه أو على أرضه. من هذا المنطلق يُعتبر هذا التصرف مداناً من قبَل روسيا، وعلى لبنان نقل هذه القضية للأمم المتحدة».
وأشار إلى أنّ «هذا الطلب هو لرفعِ مسؤولية روسيا عن أيّ حادث قد يحصل ورميه عند السلطات اللبنانية بحجّة أنّها لم تأخذ التحذيرات على محمل الجد، وهو منطق القويّ على الضعيف. فبإمكان روسيا نجدة الرئيس السوري بشّار الأسد على أن تقتصر هذه النجدة على الأجواء السورية وليس على انتهاك سيادة الدوَل المجاورة لها».
وأضاف: «وفقاً للقانون الدولي وللمجتمع الدولي، فروسيا هي المسؤولة عن أيّ حادث قد يحصل، ولا يوجد أيّ شريعة أو أيّ قانون بإمكانه تخفيف أعباء هذه المسؤولية أو نفيها، فإذا تداخلت روسيا مع الأجواء الجوية اللبنانية ومع السيادة اللبنانية فإنها هي مسؤولة عن نتائج هذا التجاوز».
الحريري – فرنجية
وفي موازاة هذا التطور استأثرَ اللقاء بين الرئيس سعد الحريري والنائب سليمان فرنجية، على رغم نفيِه من الطرفين، بمتابعة لافتة من كلّ القوى السياسية التي حاولت التثبّتَ من حصوله أم عدمه لتَبنيَ على الشيء مقتضاه، لأنّ أيّ لقاء من هذا النوع لا يمكن وضعه إلّا في الإطار الرئاسي تزامُناً مع مسارَين جديدين: المسار الأوّل سوري مع التوجّه الدولي الحازم الذي ظهرَ بعد الاعتداءات الإرهابية في باريس ووضع مؤتمر فيينا خريطة طريق عملية لإنهاء الأزمة السورية، والمسار الآخر محلّي مع مبادرة السلّة المتكاملة لـ«حزب الله»، وبالتالي هذا التزامن بالذات أدّى إلى تحويل اللقاء المزعوم إلى حدث سياسي، باعتبار أنّ هذه المناخات الدولية والإقليمية والمحلية تفتح الباب على شتّى الاحتمالات ومنها تحقيق خَرق رئاسي.
وفيما تمسّكت الأوساط القريبة من الطرفين بموقفها من عدم حصول اللقاء، تحدّثت أوساط أخرى عن حصوله، ولكن من دون أن يتحوّل إلى فرصة بسبب رفض فرنجية البحثَ في موقفه الإقليمي، وإصراره على أن يقتصر التفاهم على الملفات الداخلية، ما يَعني صعوبة تمرير التسوية إقليمياً.
وإذا كانت الساعات المقبلة كفيلة بتأكيد أو نفي تلك الواقعة، فإنّه في ضوئها ستحدّد القوى السياسية مواقفَها بعدما فضّلت التريّث لحين تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
قلق أمني
وفي غمرة الاهتمامات الأمنية ارتفعَ منسوب القلق أمس على مستوى امن السفارات الأجنبية والعربية في لبنان. وفي هذا السياق، علمت «الجمهورية» من مراجع امنية انّ التدابير الأمنية تشدّدت امس حول مقرّ السفارتين الروسية والمصرية في بيروت وعدد من المراكز التابعة لهما، عقب معلومات عن احتمال تعرّضهما لاعتداءات إرهابية.
وكشفَت المراجع أنّ القوى الأمنية تلقّت طلبات لتشديد المراقبة على عدد كبير من سفارات الاتّحاد الأوروبي والدول الخليجية في لبنان.