الجامع المشترك بين المستويات الرئاسية كلّها، هو أن نهديَ اللبنانيين قانوناً انتخابياً لا يكون مؤقّتاً ويفقد صلاحيته أو يموت عند أوّل دورة انتخابية تُجرى على أساسه، لنعود بعدها إلى دوّامة التفتيش عن بديل، بل قانون «طويل العمر» يلائم الوضعَ اللبناني وينظّم واقعَه التمثيلي العادل للسنوات المقبلة. وعلى ما يقول أحد المتحمّسين لهذا النوع من الهدايا، ليس ما يَمنع أن تُستنسَخ تجربة الرئيس فؤاد شهاب، الذي وضَع في عهده قانون الستّين، هذا لا يعني العودة إلى هذا القانون المشكو منه، بل الذهاب إلى قانون يُعمّر بقدر ما عمَّر قانون الستّين.
أوّل ما يتبادر إلى الذهن هنا سؤال: هل إنّ الزمن السياسي الحالي هو زمن الهدايا الانتخابية؟ وهل ثمّة من هو في موقع تقديم الهدايا، أو يملك النيّة أصلاً أو القدرة على تقديم هدايا؟
وإذا كان السياسيّون قد عجزوا لسنوات على بلوغ قانون يلبّي شعارات العدالة والمساواة التي يطرحونها، فكيف لهم أن يَبلغوا هذا القانون، أو ما يشبهه، خلال أقلّ من عشرة أيام، وهي الأيام المتبقّية من مهلة الأسبوعين التي تنتهي في 15 نيسان الجاري، والتي حُدّدت كفرصة أخيرة لإنتاج قانون وإلّا الاصطدام بخيارين كلاهما سيّئ: التمديد أو الفراغ؟
ثمَّة من يقول إنّ الحكومة على وشك تلقّفِ المبادرة بعد مرور قطوع جلسة المناقشة العامّة، ومع أنّ أيّ إشارة لم تَصدر عن رئيس الحكومة سعد الحريري تؤكّد أو تنفي إمكان تلقّفِ هذه المبادرة، والنزول بكلّ الثقل للبحث عن القانون وصياغته بمعايير موحّدة تخدم مبادئ العدالة والمساواة والتمثيل الصحيح.
ورغم ذلك تتعاطى قوى سياسية أساسية مع الأسبوع المقبل كموعد طبيعي للمبادرة الحكومية، ولذلك فإنّ هذه القوى السياسية قد حضّرت نفسَها سياسياً ونفسياً للنزول إلى هذه الحلبة.
لكنّ ما يلفت الانتباه هو أنّ هذه القوى السياسية لا تستطيع أن تتفاءل في إمكان بلوغ صيغة انتخابية خلال أيام على طاولة حكومةٍ محكومة بتناقضات سياسية وانتخابية.
بل هي كيَّفت نفسَها مسبقاً مع نتائج سلبية هي الأكثر ترجيحاً في ظلّ هذا المناخ، إلّا إذا خاب ظنّ هذه القوى وحمل النقاش المنتظر مفاجآت من النوع الذي:
أوّلاً، يعكس التهيّبَ من المأزق الذي ينتظر البلد.
ثانياً، يؤكّد توفّرَ الإرادة الجدّية لإحداث ثغرةٍ نوعية في الجدار الانتخابي المقفَل وبالتالي الوصول إلى قانون.
ثالثاً، يؤكّد توفّر الإرادة الجدّية لمقاربة إيجابية منفتحة للطروحات والأفكار والهواجس، وليس إغراق النقاش بصيغٍ وأفكار انتخابية تعقّده أكثر بدل أن تُسهّله.
رابعاً، يؤكّد سلوك القوى السياسية مسارَ الواقعية والعقلانية، ووقف الأسطوانة التي يعزف فيها كلّ طرف على وتره وحده، ويغنّي على ليلاه الانتخابي، ويربض بالتالي على «قانونه» ولا يتزحزح عنه.
هل هذا ممكن؟
التجربة الداخلية بتناقضاتها الانتخابية الثابتة، لا تشجّع على البناء عليها إيجابياً، وتكبير حجر التوقّعات على نحوٍ يبدو وكأنّه تغريد مفتعَل خارج الواقع المقفَل، لأنّ تصدّي الحكومة، أو كلّ المكوّنات السياسية للملفّ الانتخابي، محكوم بالاصطدام بمجموعة احتمالات:
الأوّل، أن نصل إلى قانون توافقي خلال أيام، وهذا احتمال صعب جداً.
الثاني، أن تدفع التباينات الانتخابية بالأمور نحو الفراغ المجلسي، وليس سرّاً أنّ هذا ما يسعى إليه بعض الأطراف السياسية. إلّا أنّ هذا الاحتمال صعب جداً أيضاً، لا بل خطير، وغالبية القوى السياسية صارت متهيّبةً من نتائجه الكارثية التي إنْ حصَلت لا سمح الله، فستؤدّي إلى الترحّم على البلد.
الثالث، أن يدفعَ الفشل في بلوغ قانون انتخابي جديد نحو تغليبِ التمديد لمجلس النواب – برغم أنّه مرفوض من قبَل مختلف المستويات الرئاسية والسياسية – على كلّ الاحتمالات الأخرى، باعتباره أهونَ الشرور، ونتائجه مهما كانت سلبية تبقى أخفّ وطأةً ممّا قد ينتج عن الفراغ.
وهذا الاحتمال قد يكون الأقوى، وربّما يكون في ذهنية بعض القوى السياسية الكبرى التعاطي مع النقاشات الانتخابية المنتظرة بوصفها محطةً مهمّة لمحاولة صياغة الإخراج لهذا التمديد، سواء أكان تحت عنوان تمديد تقني أو تمديد الضرورة. وخصوصاً أنّ كلّ الصيغ والأفكار الانتخابية قد استنفِذت ولم يبقَ سوى خيارين؛ إمّا التمديد أو الفراغ.
كلاهما سيّئ، لكن الأقلّ سوءًا هو التمديد. صحيح أنّ قوى أساسية تريده وتتمنّاه، وقوى أخرى ترفضه لأنه يضربها معنوياً ويُهشّم من هيبتها، وصحيح أيضاً أنّه إجراء غير شعبي وربّما يَستولد تحرّكات شعبية ضده، لكنّه في ظلّ التعثّر والعجز على توليد قانون، سيصبح حاجةً وضرورة. وصار هذا الخيار أمراً مسَلّما به من قبَل كلّ الأطراف التي بدأت تتعايش مع التمديد قبل اتّخاذ القرار في شأنه.
لكن ما هو مصير الصيَغ الانتخابية الطافية على السطح، والتي تتصدّرها ما سُمّيت «صيغة باسيل»؟
ما يلفت الانتباه أنّ كلّ الصيغ الانتخابية توقّفت عند صيغة باسيل، وأنّ التفاؤل في شأن قبول القوى السياسية بهذه الصيغة، محصور فقط في محيط أصحابها، فيما الصورة في المقابل تعكس الآتي:
– إعادة التمسّك في عين التينة بالصيغة التي قدّمها الرئيس نبيه بري (64-64).
– قبولاً من قبَل الرئيس سعد الحريري بالنسبية على أساس المحافظات السِتّ وعدم حماسة لصيغة باسيل.
– رفضاً جنبلاطياً لِما لا يلبّي الأفكار التي وضَعها في عهدة الرئيس بري.
– إصراراً لدى «حزب الله» على النسبية في الدوائر الموسّعة (وسطى، أو محافظة، أو دائرة واحدة)، مع لحظِ أنّه لم يبلغ موافقته على صيغة باسيل كما يشيع البعض، بل هو وضَع سلسلة ملاحظات جوهرية على هذه الصيغة (حول حجم الدوائر، حول التصويت الطوائفي ولماذا في اتّجاه معيّن، وكذلك حول تصويت المذاهب ولماذا في اتجاه معيّن، وحول الصوت التفضيلي الذي يريده باسيل ضمن القضاء، فيما يريده الحزب على مستوى المحافظة.
يقال في هذا السياق إنّ باسيل ما زال ينتظر ملاحظات «حزب الله»، إلّا أنّ حقيقة الأمر هي أنّ الحزب هو الذي ينتظر جوابَ باسيل على ملاحظاته.
علماً أنّ الحزب لديه علامات استفهام حول سبب الرفض المفاجئ لحليفه التيار الوطني الحر اعتمادَ القانون الانتخابي على أساس النسبية، مع أنّ هذا الأمر محلّ توافُق مسبَق بين الحليفين.
لا كلام علنياً من قبَل الحليفين حول هذا الرفض، إلّا أنّ بعض القريبين من التيار كشفوا عن «دراسة» حول النسبية أجرتها «جهات قريبة»، وبيّنت أنّ النسبية لا تفيد التيار، بل إفادتُه الأساسية يوفّرها له القانون الأرثوذكسي، ومن هنا جاءت صيغة باسيل التي يمكن اعتبارُها أنّها أُخرجت من رحِم القانون الأرثوذكسي.
تبعاً لِما تقدَّم، وبناءً على الملاحظات الاعتراضية الضمنية والعلنية على صيغة باسيل، فإنّها في نقاش الفرصة الانتخابية الأخيرة، وعلى ما يؤكّد أحد العاملين في المطبخ الانتخابي، من الصعب أن تشكّل أساساً للقانون الجديد.