بعد أحد عشر عاماً على قيامها، لا تزال عامية الرابع عشر من آذار تحتفظ باستثنائية ذلك اليوم الجماهيري المشهود في حياة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، لا يقلّل من ذلك أن تكون النظرة الواقعية قد نفذت مجدداً الى تلك الذكرى، على حساب النظرة الملحمية.
نتج عن ذلك الحدث شيئان أساسيان: تجذير وتوسيع ما عرف يومها بـ «انتفاضة الاستقلال« وصولاً الى اجلاء جيش الوصاية السورية عن لبنان، والتأسيس لما سيعرف على امتداد السنوات اللاحقة بالحركة السيادية، المتوازنة هذه المرة بين وجودها المسيحي ووجودها المسلم. الرابط بين «انتفاضة الاستقلال« والحركة الاستقلالية تشكل الى حد كبير من استمرار شهداء الاستقلال الثاني، الذين نكل بهم في «حرب سرية» تشكلت من سلسلة اغتيالات توزعت في محطات دامية ومفجعة على امتداد السنوات.
قوة الحدث التأسيسي للاستقلال الثاني، توسع قافلة الشهداء لتضم تلاوين الوجود الكياني اللبناني، وصياغة تحالف مزمن اسلامي – مسيحي الى حد كبير، كل هذا شكل منظومة استمرارية لفكرة عن الرابع عشر من آذار.
الحدث التأسيسي وجد نفسه سريعاً أمام ضرورة معاينته من خارج النوستالجيا «الاستنهاضوية» وحدها، وفي الوقت نفسه كحدث استثنائي ليس من السهل تجاوزه وركنه الى جانب الأحداث الماضية الأخرى. قوته أنه انتصار جماهيري على كل كلمة قالها السيد حسن نصر الله يوم الثامن من آذار من ذلك العام.
أما التحالف السياسي نفسه فتمدد الى أزيد من عقد من الزمان، حتى الآن، بما شابه منذ البدء من اشكاليات وتعقيدات، سواء من جهة «التحالف الرباعي» أو من جهة انشقاق العماد ميشال عون عن الرابع عشر من آذار، والتحاقه بالحلف النقيض، وبعدها تعرض هذا التحالف لاختبارات متتالية، من استمرار الاغتيالات، الى الانشطار الكياني في أعقاب حرب تموز، الى محاصرة «الباسيج» للسرايا الحكومية، الى السابع من ايار، لكنه تحالف تمكن رغم كل ذلك من هزيمة خصمه في انتخابات ألفين وتسعة، ولو أنه تخلع بعد ذلك متأثراً «بجراح» فوزه هذا!.
هذا التحالف دخل في اشكالية خطيرة منذ طرح «القانون الأرثوذكسي»، خصوصاً مع لعبة «السولد» من لدن «حزب الله» عندما وافق على هذا المشروع. توسع هذا الاشكال أكثر فأكثر بالنتيجة، الى موعد افتراق الترشيحات الرئاسية.
يبقى أن هذا التحالف كانت مشكلته الأساسية ولا تزال، افتقاده لضبط نظري لما هو التحالف السياسي. التحالف السياسي لا يمكن أن يكون تحالفاً بين متماثلين، بل هو تحالف على قاعدة الالتقاء على أهداف مشتركة، ووسائل مشتركة لتحقيق الاهداف المشتركة، وحرية النقد بين الحلفاء. تشوش هذه المنطلقات الثلاثة أضر بهذا التحالف، الذي بقيت مع ذلك تجربته استثنائية، من حيث القدرة على الديمومة كل هذه السنين، في حين أن معادلة الهيمنة العنفية هي التي تجعل منظومة الثامن من آذار موجودة بشكل متماسك الى حد ما، لأنها تحت هيمنة «حزب الله«.
اعادة تحديد ما هي الاهداف المشتركة، اعادة تحديد الوسائل، وتوضيح آليات النقد بين الحلفاء وليس فقط النقد الذاتي الجماعي المشترك بينهم، هي اليوم كما الأمس، سبل المضي قدماً والخروج من «الدراما» التي زادت عن حدها في الفترة الاخيرة. .
فأياً كانت المشكلات لا يمكن المكابرة على الاهداف المشتركة، وفي مقدمتها وضع حد لمشاريع «حزب الله» الهيمنية الفئوية داخلياً، والتدخلية في البلدان العربية. واذا كانت الاهداف مشتركة فإن تنضيد الوسائل على صعوبته يظل متاحاً، لكن دون ذلك شروط، وطبعاً النقد سهل كمبدأ، صعب كتطبيق. فهل يكون بالمقدور العبور أيضاً باتجاهه؟.