يوم الأربعاء الماضي حلّت الذكرى الأولى لسقوط الموصل في يد «داعش»، وسط مؤشرات مقلقة ترسم مستقبلاً غامضًا للدولة العراقية، فمن بغداد إلى واشنطن ليس هناك ما يوحي عمليًا بأن الحرب ضد الإرهابيين ستنتهي في وقت قريب، بل من الواضح أن العراق سينحدر نحو مزيد من الصراعات العسكرية التي سترسّخ جغرافيًا حدود التقسيم الراسخ في العقول: دولة للشيعة في الجنوب ودولة للسنّة في الوسط ودولة للكرد في الشمال!
في 4 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي قال منسق عمليات التحالف الدولي ضد «داعش» الجنرال جون آلن، إن التخطيط لمعركة استعادة الموصل قد يستغرق عامًا، ومع انقضاء هذا العام لم تَعد الموصل بل سقطت الرمادي، لا بل سُلّمت تسليمًا إلى «داعش» كما قيل، لتبرير دخول «الحشد الشعبي» الشيعي الذي يقوده الإيرانيون إلى محافظة الأنبار السنّية التي تلاصق الحدود السعودية والأردنية.
وانقضى العام الأول على سقوط الموصل ولم يتم بناء جيش وطني قادر على خوض المعركة ضد الإرهابيين، ما يرفع من أسهم «الحشد الشعبي»، رغم أنه يعمّق من المشاعر والأحقاد المذهبية بما يخدم «داعش» في النهاية، على الأقل عند المواطنين السنّة الذين أُحرقت منازلهم وتم تهجيرهم من قراهم بعد تحرير تكريت مثلاً وغيرها، وما حصل في الفلوجة مثلاً بعد دخولها في الطريق إلى الرمادي، يفاقم من هذه الأحقاد، فعلى طريقة «داعش» في حرق الطيار الأردني الكساسبة، نقلت الوكالات صور أربعة من مقاتلي «الحشد الشعبي» وهم يحرقون عنصرًا من «داعش»!
قد يبدو هذا تفصيلاً قياسًا بمؤشرات خطرة أخرى تبرز في الذكرى الأولى لسقوط الموصل، ذلك أن التحالف الدولي يتراجع وقد يتفكك، و«داعش» يتقدم، وقد بات يسيطر على مساحة 300 ألف كيلومتر بين العراق وسوريا، وهو ما يوازي مثلاً مساحة إيطاليا أو نصف مساحة فرنسا، وفي هذا السياق أثار قرار بلجيكا الانسحاب من التحالف بحجة خفض النفقات، مخاوف الكثيرين؛ ليس لأن وزير الخارجية البلجيكي ديديه ريندرز قال في عمان قبل يومين: «إن الحرب ضد (داعش) قد تستغرق سنوات وإن التنظيم لا يتراجع بل يربح»، بل لأن الأوساط الدبلوماسية والعسكرية في بعض الدول المنخرطة في التحالف تناقش انسحابها منه أيضًا، بما يعني أن التحالف قد ينهار بينما «داعش» ينمو ويتمدد!
لماذا حصل ويحصل كل هذا؟
هل هي مسؤولية حكومة حيدر العبادي التي عجزت عن تنفيذ بيانها الوزاري الذي وعد بإجراء المصالحة وبناء الوحدة الوطنية كقاعدة ومنطلق لتشكيل جيش وطني قادر على إلحاق الهزيمة بالإرهابيين، أم أنها مسؤولية الإدارة الأميركية التي عجزت حتى الآن، أم أنها لا ترغب في وضع استراتيجية لهذه الحرب، أم أنها مسؤولية إيران التي عبر تدخلها على خلفية حسابات ومطامع إقليمية ومحاولة استئثارها بقتال «داعش»، تقدم من حيث لا تدري خدمة للتنظيم عبر «تدعيش» الكثيرين من الذين تعرضوا للاضطهاد في المناطق السنّية، وقد بات المهاجر من الأنبار مثلاً ممنوعًا من دخول بغداد من دون كفيل؟!
عمليًا إنها مسؤولية كل هؤلاء، وهي مسؤولية قديمة، بدليل أن التحقيق في أسباب سقوط الموصل لم يعلن حتى الآن لأسباب سياسية تتصل تحديدًا بمسؤولية نوري المالكي عن «جيش الأشباح» في الموصل وعن الممارسات الإقصائية والكيدية التي أجّجت الضغائن المذهبية الْمُثارة منذ أيام صدام حسين!
المسؤولية الأميركية واضحة تمامًا، فللمرة المائة اعترف باراك أوباما في قمة السبعة الكبار في ألمانيا أن ليس لديه بعد استراتيجية متكاملة لمساعدة بغداد في استعادة السيطرة على المناطق التي سيطر عليها «داعش»، ورأى أن ذلك يتطلّب أن تقدم حكومة العبادي تعهدات بشأن كيفية التجنيد والتدريب، وهو ما يشكّل تحفظًا أميركيًا واضحًا على استئثار إيران بإدارة السياسة العراقية في هذه العملية!
حيدر العبادي الذي التقى أوباما على هامش القمة في ألمانيا قال إن العراق سيكسب المعركة، داعيًا المجتمع الدولي إلى مساعدته، لكن أوباما أبلغه بضرورة وجود برنامج سياسي يجمع الشيعة والسنّة والأكراد، مشددًا على أهمية استقطاب العشائر السنية بسرعة، مما يساهم في دحر «داعش»، وعلى أهمية وجود برنامج لا يُقصي ولا يميّز ويجمع المكونات العراقية الثلاثة التي تعمل بشكل منفصل، «وإن أهمية هذا البرنامج السياسي موازية للأهمية العسكرية».
هنا تبرز أسئلة صعبة ومعقدة ليس في وسع العبادي أن يرد عليها، فإذا كان يعجز حتى الآن عن تنفيذ بيانه الوزاري لجهة إنشاء الحرس الوطني وتسليح القوى الذاتية في المحافظات وتمويلها، فكيف له أن يعالج الآثار السلبية العميقة التي تؤجج المشاعر المذهبية، وكيف يعالج الاندفاع الحماسي للأكراد للحصول على دولتهم وهو ما يعلنه مسعود بارزاني وقد كرره من واشنطن قبل أسابيع؟
صحيح أن تصريح أوباما عن عدم وجود استراتيجية لمحاربة «داعش» أثار زوبعة من الانتقادات الحادة في واشنطن، حيث سأله رئيس مجلس النواب جون بوينر: «ماذا كنت تفعل في خلال عشرة أشهر؟ ولماذا أنت ضائع مع استراتيجيتك؟». وصحيح أن جون ماكين سأله إذا كان سينتظر عامًا ثانيًا من دون أن يفعل شيئًا لوقف المجزرة المرعبة في العراق، لكن الأصحّ والأخطر هو التخبط بين المكونات العراقية في مواجهة «داعش»!
في موازاة الكلام الذي سمعه العبادي من أوباما قال نائب الرئيس العراقي أسامة النجيفي لمناسبة ذكرى سقوط الموصل، وهو من أبنائها، إن من المؤسف أن بعض سياسات الاستهداف السياسي التي طبقتها الحكومة السابقة لا تزال قائمة، وأن أجواء القلق وعدم ثقة مواطني المناطق المحتلة مستمرة. إن مسؤولية سقوط الموصل تقع على حكومة المالكي، لكن ما حدث في صلاح الدين والأنبار هو استمرار للنهج الفاشل إياه، بما يعني ضمنًا أن بصمات نوري المالكي الإيرانية مستمرة مع العبادي، الذي يعجز حتى الآن وضع حجر الأساس لإعادة بناء الوحدة الوطنية التي تحمي العراق من الذوبان!
بدوره كان رئيس مجلس النواب سليم الجبوري يعلن من واشنطن أن إنقاذ العراق لا يمكن «أن ينجح دون التخلص من سياسة الاستقطاب الإقليمي التي جعلته ساحة للصراع»، وفي هذا إشارة واضحة إلى الدور الإيراني الذي لم يتمكن العبادي من وقفه، والمباشرة في إعادة تكوين الهيكل الوطني للدولة العراقية، ولهذا يتخوّف البعض في ذكرى سقوط الموصل من خطر سقوط العراق!