أقرّت الحكومة مبلغ 31 مليار ليرة لبنانية لإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في موعدها الدستوري، والمفترض حصوله بين شهري أيار وحزيران المقبلين. تؤكد السلطة التنفيذية بلغة الحسم المالي أنها ماضية في احترام الاستحقاق البلدي، غير آبهة بما سطّرته، هي بنفسها، من أعذار وحجج أمنية لكي تنقذ نفسها مرتين على التوالي من تجرّع كأس اختبار الناخبين لمجلس نيابي جديد.
ومع ذلك لا يصدّق اللبنانيون سياسييهم، لأنّهم «كذبوا ولو صدقوا». ولا يأخذون على محمل الجدّ كل تأكيداتهم الموثقة بالصوت والصورة أنهم جادون في فتح صناديق «الفرجة» البلدية والاختيارية ليتسلى القيّمون على أحوال الناس بصراعات الأخوة وأبناء العم، في الوقت الضائع بين مبادرة رئاسية منقوصة وأخرى ممنوعة.
أطلقت الحكومة صفارة الإنذار كي تقوم وزارة الداخلية بواجباتها في تجهيز لوائح الشطب ودعوة الهيئات الناخبة وتحضير طواقم الإشراف وأقلام النفوس، لكن حراك أهل البلديات لا يزال بطيئاً وخجولاً، فيه الكثير من التردد والخوف من نكسة قد تبلّعهم إياها السلطة السياسية في اللحظات الأخيرة، فتتراجع عن مسؤولياتها وتحيل المجالس البلدية والاختيارية الى قافلة المؤسسات الممدّد لها بفعل تخلّي الدولة عن مسؤولياتها.
ولكن هناك مَن يقول إنّ حماسة «الحلفاء الجدد»، أي «التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية» لاختبار تفاهمهما العابر لتاريخ الخصومة العميقة وجغرافيتها، قد تكون واحداً من الأسباب التي سترفد الاستحقاق البلدي بحقنة التجديد لعروقه، لأنّهما لن يرضيا بترقيعات «الشركاء» لتغطية قرار التمديد لهذه المجالس، خلافاً لرغبة بعض القوى الأخرى التي لا تريد لرأسها هذا الوجع وتفضّل ترحيله الى ما بعد الانتهاء من «مخاض الرئاسة».
هكذا، قد تكون من فوائد هذا التفاهم المتخطّي «بأبعاده الثلاثية» القصر الرئاسي، دفع الدولة الى رفع قبعتها للمواعيد الدستورية، حتى لو قد يضطر أحد مكوناتها، أي «تيار المستقبل»، الى تكبّد أثمان باهظة نتيجة عدم قدرته على حسم النتائج بسهولة، لا سيما في بعض المدن الكبرى، لمصلحته.
ولأنّ «الثنائي» الشيعي حريص على طمأنة المشككين في موقعه ومدى رغبته في المثول أمام «قاضي الأمور البلدية»، من خلال التأكيد، علناً وعلى لسان الرئيس نبيه بري، بأنّ المشاورات الثنائية جارية على قدم وساق بين الفريقين كي لا يغرقا في مستنقع الخلافات العائلية وزواريب النزاعات المحلية، فهذا يعني أنّ مؤشّر الحماسة لخوض الاستحقاق الى تحسّن إضافي، ما يعزز حظوظ نظرية إجرائها على حساب «فتوى التمديد».
ولكن في ظلّ الخلطة السياسية التي فرضت نفسها على مكونات الطبخة اللبنانية، باتت المقاربات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة خلال السنوات الأخيرة وتحديداً بعد العام 2005، ما قد يؤدي الى تغيير في المشهديات السياسية، لا سيما في المدن الكبرى، مع أنّ للاستحقاق البلدي خصوصياته وقواعده المناطقية، وتحديداً في البلدات والقرى الصغيرة وتلك التي تحكمها العائلية والاعتبارات المحلية الضيقة، حيث تكاد تختفي أصوات الأحزاب والقوى السياسية وقوتها التأثيرية.
أما أبرز المتغيّرات السياسية التي طرأت على مشهد التحالفات، فمتصلة بشكل خاص بشبكة العلاقات بين القوى المسيحية التي تأكل رمال تفاهماتها المتحركة كل ما هو قائم عليها لمصلحة معادلات جديدة. أهم تلك العوامل الانقلابية هي التفاهم بين الرابية ومعراب، حيث تمكّن الثنائي المسيحي العوني والقواتي من سحب كل ذرائع التفجير التي كانت تبعد بينهما، وصار بإمكانهما تشكيل «بلوك» ضاغط بوجه كل مَن يعارضهما، لا سيما على الخارطة المسيحية.
هكذا، ستصير العلاقة بين «القوات» وباقي المكوّنات المسيحية لقوى «14 آذار»، موضع تساؤل جديّ، واستطراداً سيصبح التحالف الانتخابي بينهما صعباً، أولاً بين معراب والصيفي والتي تعاني علاقتها بالأساس من خلل بنوي وعضوي، في ضوء «الاشتباك العلني» الذي تشهده روما من فوق، فكيف الحري بروما من تحت؟ وثانياً، بين معراب ومجموعة المستقلين الذين يعتقدون أنّهم سيكونون ضحايا التقارب بين «التيار الوطني الحر» و «القوات» وسيدفعون بالتالي ثمن التقاء هاتين القوّتين، ما يعني أنّ تواجدهما على لائحة بلدية واحدة قد يكون عملة نادرة.
وبهذا المعنى أيضاً، سيكون موقف «الحزب السوري القومي الاجتماعي» على طاولة التشريح، للسؤال عن خيار قيادته ومصيرها على لوائح البرتقاليين إذا ما ضمّت قواتيين مثلاً!
في المقابل، فإنّ التناغم بين حيلفَي السنوات العشر أي «التيار البرتقالي» و «تيار المردة» في مناطق النفوذ المشتركة، وتحديداً في زغرتا والكورة والبترون، سيكون من الصعب استنساخه من جديد وتعميمه بسلاسة حتى لو صدرت أوامر عليا تقتضي بتشكيل لوائح مشتركة.
أما النقطة الأبرز فستطال التحالف الانتخابي بين معراب وبيت الوسط والذي يعود عمره الى أيام الرئيس رفيق الحريري. فعلى رغم حرص الفريقَيْن على ترك شعرة عالقة في هذا التحالف، إلا أنّ قواعدهما تغنّي على ليلاهما.
هكذا، صارت هذه التساؤلات مشروعة:
– كيف سيخوض تيار «المستقبل» استحقاق العاصمة بيروت بشقها المسيحي؟ هل سيكرّر تجربة العام 2010 في تعامله مع القوات كشريكة له في المجلس البلدي أم سيعاقبها؟
– هل سيعمل الثنائي المسيحي المتفاهم حديثاً على إقفال لوائح المجالس البلدية في مناطق نفوذهما، أم سيترك لريح الاعتبارات المحلية أن تسيّر دفة الاستحقاق؟
– مَن سيتحالف مع مَن في مدينة زحلة؟ أين التيار «السكافي» من خلطة التحالفات؟
– كيف ستتعامل حركة «أمل» مع «التيار العوني» في مناطق التماس، جبيل مثلاً، وجزين وشرق صيدا؟
– ماذا سيكون موقف وليد جنبلاط من التفاهم المسيحي، خصوصاً أنّه في الاستحقاق الماضي فتح الباب أمام تفاهمات محلية مع «القوات»؟ سيكرّرها أم سيُصار الى استبدال القواتيين بمسيحيين غيرهم؟
عملياً، لا تزال هذه التساؤلات من دون إجابات، لأنّ مَن بمقدوره الردّ عليها.. فسيكون بمقدوره حسم السؤال حول مصير الاستحقاق.