بالرغم من الرسائل العديدة التي أَرسلها اللبنانيون لقياداتهم من خلال صناديق البلديات، بقيت هذه الطبقة الحاكمة بأمرها، مستمرة بمهاتراتها وعبثية قضاياها التي لم تخدم حتى اليوم سوى الفراغ القاتل للدولة والتعطيل المتمادي لمؤسساتها.
فبلغت المبارزة السياسية في كشف فضائح الفساد لتضع جميع الأفرقاء، بلا استثناء، في مغطس واحد، تظللهم النفايات وتجري من تحتهم مياه سد جنّة وتحيط بهم الاتصالات، وما إلى هنالك من قائمة من المشاكل الحياتية الملحة، والتي تمسّ حياة المواطن اليومية والتي لا تزال تشكل مادة دسمة للمساومة والابتزاز وتقاسم المغانم بين الطبقة الحاكمة.
إن اختلاق العراقيل عند كل جلسة مجلس وزراء لتعطيل إنتاجيتها إنما ينعكس سلباً على ما تبقى من صورة الدولة المتهالكة، وكان الأجدى بالمدافعين الأشاوس عن الجمهورية وحقوق المسيحيين في لبنان تجاوز مصالحهم الضيّقة وخلافاتهم العقيمة لانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة الاعتبار للرئاسة الأولى بعد مضي عامين على الشغور في محاولة واضحة لتهميش شرعية لبنان الدولية والدور المسيحي على الساحة الداخلية.
إن نتائج الانتخابات البلدية، مهما يحلو للبعض تجاوزها أو التقليل من شأنها، إن دلت على شيء إنما تدل على الرفض الشعبي لاستخفاف الطبقة السياسية بمصالحهم وتماديها بسياسة الصفقات والتحالفات الآنية التي تطوي سنوات من الخلافات التي عطّلت الحياة الاقتصادية وأضرت بالنمو والتقدم المفترض للوطن الصغير في حال وجود التوافق السياسي اللازم لبناء مؤسسات الدولة، من دون أي سبب وجيه غير الكيدية والمصالح الخاصة لكل فريق.
إن الأقطاب المتحالفين في انتخابات بلدية طرابلس، لو تحالفوا في السابق وتوافقوا على وضع حدّ لمعاناة عاصمة الشمال الذي تمّ عبر تهميش أهلها وغياب المشاريع الإنمائية وتركهم أرضاً خصبة للمعارك الأهلية والتيارات المتطرفة تحاول ملء الشغور الرسمي واستثمار الحرمان والقهر لتنمو وتكبر على ضفافهم، إلا أن هذه الانتفاضة الشعبية مرشحة لتنسحب إلى الصناديق النيابية، إذا كتب لها أن تبصر النور، وعندها ستكون الرسالة قاسية والنتيجة لا عودة عنها.
في ذكرى إعلان النيّات، يتساءل اللبناني عن العائق الحقيقي الذي يحول دون تحويل هذا الإعلان إلى قوة جامعة تجند طاقاتها لوضع حدّ للشغور الرئاسي وعودة الشرعية لمؤسسات الدولة بدلاً من استغلاله لعرض القوى ومحاولة احتكار القرار المسيحي وتكريس الزعامات في دائرة فراغ ستبقى عقيمة طالما بقي قصر بعبدا من دون سيّده، وما الذي يمنع الأقطاب السنّة الذين تحالفوا في طرابلس من أن يتحالفوا لدعم إنماء طرابلس بشكل فعّال وليس ضمن الشعارات، بعيداً عن المحاصصة والمنافسة الضيّقة؟ وما الذي يمنعهم من تشكيل رافعة قوة تدفع نحو حل القضايا على مستوى الوطن على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والحياتية.
لقد أثبتت التجربة أن المصالح الخاصة هي خير برهان على قدرة الأفرقاء على تجاوز خلافاتهم، على أمل أن تشكّل نتائج الانتخابات البلدية ومن يهمه أن يقرأ دلالاتها، رسالة واضحة عن تمرّد شعبي لن يرضخ بعد اليوم لمزاجية السياسيين أو مصالحهم الآنية، وتدفع بذلك نحو الخروج من الأزمة السياسية المفرغة التي يدور لبنان في فلكها منذ عامين، وصولاً لوضع حدّ للفساد المستشري والذي بات يتاجر بكل شيء حتى بهواء لبنان ومياهه!