كلما صدر كتاب جديد لكريم مروة أرى فيه فصلاً آخر من فصول المرارة العربية وعبث لبنان. وليس مثل هذا المفكر والمؤرخ مثالاً على ضياع الأجيال والأوطان والأمم. مثاليات تتساقط على الطريق وأحلام تتهاوى، وكوكب يدور بنا في كل اتجاه إلاّ الجهة الصحيحة. وفي فوضى هذه التجربة وغناها وصدقها، يمثل كريم مروة جيلاً عربياً بحث عن وطنه وأمّته في جميع المرافىء وفي النهاية، عاد إلى الاستراحة في مرفأ الإبحار الأول، مستكيناً إلى قناعة بسيطة ملؤها رضى الذات، مهما كبرت الخيبة بالآخرين، افراداً وجماعات وأمماً.
قال رشيد درباس في تحيته إلى كتاب مروة الجديد “ملامح الشخصية اللبنانية”، إن هذا المفكر التائه خرج من دينه مرتين. ويقصد بذلك طبعاً أن الشيوعي اللبناني الأخير خرج أولاً من مدرسة النجف إلى حلم الاشتراكية، ومن ثم رأى نفسه يغادر الاشتراكية نادماً على زمن فاته أن يحيا حرياته وديموقراطياته. يشبه كريم مروة في هذه المسيرة الطويلة الكثيرين من اهل النُخب الذين لم يعثروا لأنفسهم على مرسى واحد. وهم في طبيعتهم اعداء التجمد في اي حال. فإن خلف كل أفق أفقاً، ووراء كل تلة مسرى. ولكي نفهم كريم مروة ونفهم جيله ونفهم لبنان، لا بد أن نبدأ باسماء الذين اختارهم لرسم ملامح الشخصية اللبنانية، التي كونته قبل سواه. وأول ما يلفت في الأمر ان معلمّه الأول لم يكن لينين ولا حتى خُلّه – أي خُلّ كريم – كارل ماركس، بل كان حالماً متمرداً رومانسياً حزيناً، يدعى جبران خليل جبران. أي لا عقائد ولا ايديولوجيات، ولا جمل طويلة معقدة منحوتة مصوّتة، بل رجل بسيط يهتف من بين الرعاة، أن الحياة عدل وأفئِدة ومحبة. ثم ان الشيعي النجفي الماركسي العاملي يتمهل في رحلته بلبنان أمام شخص غير متوقع عنده اطلاقاً. فالاشتراكي الأممي يريد أن يعدل في حق البورجوازي المصرفي الكاتب بالفرنسية، يومها لغة الإنتداب، ميشال شيحا. وبعدما حمل اليسار اللبناني عشرين مطرقة دق فيها آثار وأفكار ذلك الكلداني، يدق كريم مروة المفكر، مطرقة العدل في سبيله وفي سبيل رد الاعتبار إليه. ولا يجد حرجاً في أن يكون معظم ابطاله من المسيحيين، ولو أنه حرص بعفوية، أو لاوعي، على ان يكون هؤلاء ممن المّوا باليسار، أو المّ بهم، من بعيد أو قريب، من ميخائيل نعيمه، إلى يوسف ابراهيم يزبك، إلى انطون تابت، إلى الأب طانيوس منعم، إلى رئيف خوري، إلى الدكتور جورج حنا. أو ايضاً إلى اليسار الشخصي أو الوجداني مثل أمين الريحاني، والياس ابو شبكة، والشاعر القروي، ومارون عبود، والثالوث الرحباني، وبول غيراغوسيان، وتوفيق يوسف عواد، صاحب “الرغيف” و “الصبي الأعرج”، أو ماكسيم غوركي البدايات.
ثمة ظلال من تنشئة اليسار في جميع اختياراته تقريباً: حسين مروة، وسليم خياطة، وعمر فاخوري، ومحمد عيتاني، والشيخ احمد عارف الزين، صاحب مجلة “العرفان”، التي كنا نقرأها فتياناً وهي تحمل في صفحاتها أبرز وأهم أسماء الأدباء والمفكرين العرب. يؤرخ كريم مروة لنفسه منتقياً من دفاتره، مشاعره وانطباعاته ومفاهيمه وقواعده، كما يؤرخ لبلده عبر الشخصية الوطنية التي بدأت بالظهور اواخر القرن التاسع عشر، وظلت تتكون ببراعة ومهارة وانسانيات حتى نهايات القرن العشرين. فالذي يجمع بين هؤلاء أمران: الإنسان ولبنان، الوطن والمهجر، الدولة والأمة، الحلم والخسارة.
من هذا المطل الإنساني العميق، يحاول كريم مروة أن يحبك من أشخاصه تاريخاً، إذ استحال أن يصنعوا من أنفسهم وطناً. فهو على سبيل المثال يترك للشيخ عبدالله العلايلي أن يكتب عن الامام الحسين بن علي، وأن يشرح فكره ومأساته. كذلك يختار العلايلي المعمم نموذجاً للحداثي الذي أسس مع كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي، ومع المهندس انطون تابت “حركة انصار السلم”، ثم وقف ضد الناصرية بسبب حكم الاعدام على إثنين من العمال قادا اضراباً عمّالياً. يقول عنه: “كان حاسماً في موقفه الرافض للاستبداد. وظل على امتداد حياته يدعو إلى تحرير البلدان العربية من انظمة الاستبداد التي سادت فيها طويلاً. كان في كل مواقفه عميق الايمان بالديموقراطية. وكان يعمل من أجل أن تسود الديموقراطية عالمنا العربي لكي يحرر القومية العربية، التي يُعلن اعتزازه بالانتماء إليها، من كل ما شابها ويشوبها من تشويهات”.
ذلك زمن مضى طبعاً، ووطن مضى، وقد لا يُستعاد. البلد الذي كان فيه الناقد الاجتماعي والسياسي “الشنسونييه” عمر الزعني بكل أدابه وملوحاته ولمحاته، وليس بسفاهات اليوم وعمقها وفجاجتها. أو البلد الذي كانت فيه داعية تحرير المرأة، نظيرة زين الدين وزينب فوّاز، الدرزية والشيعية. تُراه يريد أن يقول شيئاً ما عن عالم اليوم؟ عما آل إليه لبنان الذي طالما رفضه ورفضناه، الذي طالما حمّلناه مسؤوولية النكسات والهزائم، الذي لم نترفق به لحظة وهو يتساقط بين الأقدام والجزم؟
أحب أن اسأل كريم مروة، من غير أن أثقل عليه أو على محسن ابراهيم وسائر الاصدقاء والاحباء، هل كانت فلسطين “اتفاق القاهرة” اصدق أو أعمق أو أرقى من فلسطين ميشال شيحا؟ لكنها المراهقة التي مرّ بها الجميع. ابناء القرى الذين قرروا أن يحملوا ماركس إلى مزارع التبغ، ناسين الدرس الأول، وهو أن الخطأ الأكبر للينين كان محاولة تطبيق نظريات الصناعي الألماني كارل ماركس في بلاد الزراعة والاقنان، أو عبيد القيصر.
حدث هذا في بقية العالم العربي ايضاً. أُمِّمت الصحافة الكبرى في مصر، وأعطيت للضباط. وأُمّمت المصانع الكبرى وسُلّمت إدارتها إلى عديمي الخبرات. وأمّمت الزراعات في سوريا والعراق وتُركت من دون خبير واحد في الري، أو التسويق، أو تبدل الازمان.
احتفلت جامعة اللويزة في موسم الكتاب هذا، بذكرى الشاعر بولس سلامة، الذي استعاد سيرته بين الخطباء “ابن أخيه” شاعر البرلمانيين، ادمون رزق. وأصدرت الجامعة في الآونة نفسها كتاباً للشاعر جوزف ابو ضاهر، عن الشيخ فؤاد حبيش، صاحب “دار المشكوف” واسطورة “النشر الملعون” في لبنان. أو النشر “اللذيذ” على ما سمى فؤاد كنعان، الملعون الآخر، بطلته القصيرة الشعر “ياصبي، يا أزعر، يا لذيذ”. ماذا يجمع بين الشديد التحفظ بولس سلامة والليبرالي الوجودي فؤاد حبيش؟ العلاقة العميقة مع الاسلام. الماروني الذي رأى دينه في المسيح وحضارته في الإسلام. تماماً كما رأى الشيعي الشيوعي كريم مروة انتماءه الوجداني في جبران وعبدالله العلايلي، وضحك للحياة مع سخريات عمر الزعني.
ممَ كان يشكو لبنان الذي دمرناه، ومن أجل ماذا وفي سبيل من؟ نحن عاجزون عن إقامة منتدى أو مجلس. يسارنا مضطهد ويميننا منبوذ. حوارنا محظورات وخطابنا ممنوعات. أول مرة سمعت عبد الباسط عبد الصمد مؤذناً للفجر كان من مسجد في النبطية قرب منزل ابنة خالتي روز، زوجها عثمان الزين، نجل مفتي صيدا! عن أي لبنان بحثنا عندما أقمنا الحرب بين الغربية والشرقية؟ ودعك من المزدوجين ومكابرتهما. لا لزوم لهما. حفروا في قلوبنا شرقاً وغرباً. علامة أرض واحدة، وثقافة واحدة، ورؤية واحدة، وشمس واحدة تشرق، ولا تزال، على مجموعات من “المؤنثة قلوبهم”، بقعة صغيرة فيها أعجوبة الأمم من امم وشعوب وحضارات، فلماذا؟
فات وقت التحسر الآن. تحسن قراءة كريم مروة من خلال تحية رشيد درباس لأن الجيل واحد والزمن واحد والحلم واحد والخيبة واحدة، على رغم فارق العمر. الجيل الذي لم يمهل النظام أن يصحح هفواته واخطاءه وتجاوزاته، فبدل أن يغير الرجال قرر أن يغير الميثاق، وبدل أن يسعى إلى تحصين الدولة من عجزها، قرر أن يهدمها ليبني فوقها الجمهورية الفاضلة. لكننا نسينا جميعاً أننا أهل منطقة بركانية لا يطيب لها العيش إلا بين الحمم، ويخدرها طعم الرماد. وها نحن، مثل سوانا، نبحث عما اضعنا، وهو يتفتت بين اصابعنا المتكسرة من شدة العصاب واليأس.
أعاد كريم مروة النظر في لينين قبل ميخائيل غورباتشيوف و”غلاسنوست” و”البيريسترويكا”. لكن “الحرس القديم” هب عليه. كما هب في سوريا، عندما أعلن عبد الحليم خدام ان الاصلاح سيؤدي إلى حالة جزائرية. فإلى مَ أدّى التجمد في ثقافات الماضي ونظمه وعقلياته؟
كان لبنان اكثر دول العالم العربي ازدهارا نسبياً عندما قرر الاشقاء العرب – وسواهم – أنه يجب تدمير نظامه الاقتصادي. وكان أفضل جامعاتهم عندما هتفوا ضد امبرياليته وذنبيّته وذيليّته للاستعمار. ضاع باقي فلسطين في سيناء والجولان والقدس، فقررنا استردادها من جنوب لبنان وتحويل بيروت إلى هانوي. وكان ذلك سهلاً. أي هانوي. أما الاستعادة، فالرحمة على الشهداء وذوي النيات الحسنة وكبار القلوب.
الرجل الذي قرر قتل الذبابة على أنفه بالمسدس. لم تكن “المارونية السياسية” تحرز هانوي أو بنوم بنه. “غلاسنوست” مشتركة وينتهي الأمر. انتخابات عاقلة بعيدة النظر تحمل فيها إلى المجلس شيئاً من كِبَر عبدالله العلايلي، وروحية يوسف ابراهيم يزبك، وآفاق احمد عارف الزين، ونقاء جبران، وغربال ميخائيل نعيمة، ولوحات عمر الزعني، وعصاميات محمد عيتاني. فما هو في نهاية الأمر إلا بلد صغير، وقابل للتعلم. هل هو كذلك حقاً؟ لا اعتقد.