ليس من المستحسن بناء كثير من «الأحلام الوردية» على النتائج التي يمكن ان يفضي اليه التحقيق المالي الجنائي، والإجراءات التي تُبحث في الدفاتر العتيقة. فمهما بلغت «الغلّة» – ان توافرت في الوقت المناسب – لن تكفي ليقلع البلد مجدداً، وهو ما ادّى الى التشكيك بالقدرة على تنفيذ وعود باتت «معلّقة» في منزلة بين الحقيقة والوهم. فكيف ولماذا؟
توقفت مراجع نقدية وسياسية مطلعة، تتابع بدقّة الإجراءات المتخذة على اكثر من صعيد، عند القرارات الأخيرة التي اتُخذت تحت شعارات انقاذية واصلاحية، فقرأتها بوجوه سلبية، استناداً الى كثير مما هو ثابت من تجارب حتى اليوم. ففي ظلّ العقلية «الإنتقائية» التي تُدار بها الملفات الإدارية والمالية والنقدية والقضائية، وعلى خلفيات أخرى انتقامية تشي بكثير مما يثير القلق، فإنّ لأهداف المُعلنة التي أُطلقت والوعود «المفخّخة» التي قُطعت، تحوّلت شكلية قبل ان تتبخّر، وباتت بعيدة كل البعد عن تحقيق ما هو مُنتظر.
فكل ما يجري يُثبت، في رأي هذه المراجع، انّ منطق الإستئثار ومحاولة استغلال السلطة وتجاوز حدود القانون والسلطة والمواقع المختلفة، ما زال قائماً. وهو امر يتمّ على حساب النظام والقانون، ومن بعدهما الكفاية والجدارة، ليتقدّم منطق الزبائنية والحمايات على انواعها. وهي امور ليست خافية على احد. فلا يمرّ اسبوع إلّا ونشهد على نماذج من خطوات من هذا النوع، تمسّ سلامة النقد الوطني وتزرع الشكوك في امكان تجاوز المرحلة، وقدرة اهل السلطة على اتخاذ القرارات الصعبة والمؤلمة التي عليها اتخاذها في مواجهة الازمة، وخصوصاً بعدما تشابك ما هو نقدي ومالي وقضائي واداري وصحي واجتماعي، وبنسبة اقل، بما هو امني. ولا يتجاهل كثر حجم الإفراط بتبذير المال العام من دون وجه حق على رغم من ندرته، والتفنن في استثمار السلطة والافراط في استخدامها المواقع وتطويع الصلاحيات والقوانين وخرقها. كل ذلك من اجل فرض امر واقع يشكّل وسيلة لتصفية حسابات، او مطية لتثبيت اعراف خارج ما يقول به الدستور والقانون. وكلها جرائم يبرّرها البعض بالنزاع المتقدّم يوماً بعد يوم، نحو الإمساك بمفاصل الدولة والسلطة، على انّها وسيلة لموقع متقدّم في السباق المحموم الى قصر بعبدا.
على هذه الخلفيات المتعددة، تقرأ المراجع الديبلوماسية والسياسية كثيراً من القرارات الأخيرة وتلك المنتظرة، ومنها التي اتُخذت لإرضاء المجتمع الدولي وصندوق النقد والمؤسسات المانحة، مع العلم انّها لا تنتهي الى ما يعدونهم به، ومعهم اللبنانيون، وما يرسمون لهم من احلام. فبعض ما اتُخذ من اجراءات يُنذر بعدم وجود اي تقدير لحجم المخاطر التي لم تكتمل فصولها بعد.
وعليه، تتوقف المراجع نفسها امام مسلسل الأحداث والقرارات الاخيرة، بهدف تشريحها وإدانتها. فبعد القرارات القضائية العشوائية التي اتُخذت، لم يعد هناك من شك انّ السلطة القضائية قد مُسّت في دورها وهيبتها. وهي التي لا تحتمل شكاً في اي قرار يمكن ان يُفسّر على غير غاياته. فكيف إن بلغ المدى الذي مسّ قانون القضاء العدلي، على يد قاضي الامور المستعجلة في صور محمد مازح – على سبيل المثال – بقراره منع السفيرة الاميركية من التصريح، ووسائل الاعلام من استضافتها، والذي انتهت فصوله باستقالته. وصولاً الى قرار رئيس دائرة تنفيذ بيروت القاضي فيصل مكي، بالحجز الاحتياطي على منزل وممتلكات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من دون النظر الى نوع وحجم الحصانة التي يحظى بها، او تلك التي تمسّ دوره في قانون النقد والتسليف.
فقرار من هذا النوع، ما زال يخضع للنقض. وهو بحسب البعض، لم يراع الاصول في التوجّه بداية الى قاضٍ منفرد بدلاً من النيابة العامة المالية، التي تحقق وتستمع الى «المتهم» وتأخذ افادته ثم تدّعي، قبل احالته الى قاضي التحقيق الذي يجب ان يكون متخصصاً في الشؤون المالية. فهذا القاضي هو المرجع الصالح الذي يصدر قراراً ظنياً يحال الى القاضي المنفرد. ولذلك ومنعاً للتمادي في الخطأ، فقد جاء قرار رئيسة دائرة تنفيذ بيروت القاضية نجاح عيتاني ليفتح نقاشاً قائماً منذ امس، بمصادرتها صلاحيات كل قضاة الدائرة ومنع الموظفين من تسليم الاستنابات من دون علمهم وموافقتهم الشخصية في مكانه. وعدا عن ذلك، فهو قرار لا يمرّ لمجرد التقدّم بشكوى او ببلاغ او إخبار، يتجاهل من هو المُستهدف بهذه الخطوة، بمعزل عن كونه رئيس هيئة التحقيق الخاصة وما يحمي موقعه، فقد وضع بتصرّف مرجع ممن ليس له صفة للتحرّك، متجاهلاً ادوار النيابة العامة الاستئنافية، كما هي الحال مع حجز املاك الحاكم، وقبله النيابة العامة التمييزية، عندما اتُخذ قرار بحجز ممتلكات المصارف ومنع اركانها من السفر، قبل ان يصدر قرار مماثل بمنع سفر عامر الفاخوري، بعد قرار المحكمة العسكرية بالإفراج عنه.
ليس في هذا المقال ما يكفي من سعة، للإشارة الى حجم الأخطاء المرتكبة، الى ان تصل الأمور الى «الرهان الكبير» على التحقيق الجنائي المركّز في حسابات مصرف لبنان، بعدما قرّرت الحكومة الاستعانة بشركة Alvarez & Marsal للقيام بهذه المهمة. وهو امر مشكوك في اتمامه حتى النهاية. وعلى رغم من الاصرار على تنفيذه، فإنّ الجدل ما زال قائماً حول اكتمال شروط القيام به. فقد تجاهل القرار قانون السرية المصرفية وما يقول به قانون النقد والتسليف، ما لم تجرِ التعديلات على الآلية المعتمدة، ولا يعدّل قانون إلاّ بقانون، وهذا يحتاج الى وقت طويل.
وان كان قرار الاستعانة بشركتي «KPMG» و «Oliver Wyman» للقيام بالتدقيق الحسابي المالي وفي النشاط الإداري «Management»، كما التدقيق في بعض الأمور المالية طبيعياً ومتكاملاً للغايات القانونية والإدارية المثلى، فإنّ التطلع الى كلفة التحقيق الجنائي، بعد طي الجانب المتعلق بالعدو الإسرائيلي وإثارته، وتحفّظ وزير «امل» الثاني ووزيري «حزب الله» حلفاء وزير المال، يثيران الريبة ايضاً. فاعتماد شركة Alvarez & Marsal الأغلى كلفة من بين زميلاتها يثير الشكوك أيضاً، فطلبها مليونين و220 الف دولار اميركي لتنفيذ المهمة، في ظرف تشكو فيه الدولة من حجم مصاريفها وتسعى الى تقليصها، بفارق قياسي عمّا كانت مؤسسة «Kroll» ستتقاضاه قبل فسخ العقد، وهو بحدود 500 الف دولار، من دون تجاهل العرض الثاني المنافس للشركة التي تقرّر التعاقد معها بفارق مليون دولار تقريباً.
عند هذه الملاحظات يمكن ان تتوقف المراجع السياسية والديبلوماسية، وان ارادت الإستزادة فالنماذج كثيرة. ولكن إن تمّ الربط بين هذه القرارات وحاجة الدولة الى مقاربة الشروط الدولية وتلك التي حدّدها صندوق النقد الدولي وعشية زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان الموجود في بيروت منذ ليل امس، يمكن فهم هذه الخطوات لحاجة السلطة الى تسويقها والإسثمار فيها. ولكن ما هو ادهى وأخطر سيكون مدار بحث ونقاش عند ظهور الحقائق في فترة قريبة. وتحديداً عندما يثبت فشل هذه الإجراءات وحجم الأوهام التي بُنيت عليها. وهو السؤال الأهم الذي سيُطرح في مرحلة متأخّرة قد لا ينفع فيها الندم.