Site icon IMLebanon

لماذا لا تُقاتِل “أمل”؟

 

على رغم استمرار الإشتباكات على الحدود الجنوبية بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي منذ 8 تشرين الأول الماضي، بعد عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها حركة «حماس» في محيط قطاع غزة، لا يزال السؤال يدور حول امتناع حركة «أمل» عن المشاركة في القتال. صمت الحركة في الميدان، الذي قال عنه أمين عام «حزب الله» إنّه يقرر مسار المعركة، يعكس الصمت الذي يتحصّن به رئيس مجلس النواب ورئيس الحركة نبيه بري، وإن كان كسره بقوله لجريدة «اللواء» أمس «أنا بعرف قوتي، إذا دخلوا على أرضنا نحن أوّل المقاومة، وكفى».

بعد المناورة العسكرية التي نفّذها «حزب الله» في 21 أيار الماضي، في الذكرى 23 لانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في 25 أيار 2000، أعلنت حركة «أمل» بعد خمسة أيام، في 26 أيار، عن مناورة عسكرية أجرتها في أحد معسكراتها في جنوب لبنان. وهي لم تكن المرّة الأولى التي تعلن فيها عن مثل هذه المناورات أو التدريبات للتذكير أنّها موجودة. في الواقع غابت «الحركة» عن العمل العسكري التنظيمي منذ أُحيلت هذه المهمة العسكرية إلى «حزب الله» في العام 1990 نتيجة الإتفاق الذي حصل بين النظامين السوري والإيراني على إنهاء القتال الذي نشأ بين «الحركة» و»الحزب» في الجنوب والضاحية الجنوبية واستمر نحو عامين. منذ ذلك التاريخ احترم الطرفان بنود هذا التفاهم. أخذ «الحزب» على عاتقه احتكار العمل العسكري والأمني والعمليات ضد إسرائيل، بينما أخذ الرئيس بري دوره السياسي على رأس مجلس النواب وأعطي حق التعيين في الدولة والمؤسسات.

 

«الحركة» وأمن الجنوب

 

لم تكن مسألة خروج «أمل» من الصراع العسكري بسيطة. ولم يكن تخلّيها عن تاريخ من «النضال» الذي تراكم منذ تأسيسها العسكري في العام 1975، قراراً ذاتياً وإرادياً بقدر ما كان نزولاً تحت سقف التوافق السوري الإيراني، ونتيجة خسارتها الأمنية والعسكرية أمام الهجمة الكبيرة التي شنّها ضدها «حزب الله» وكسرت ظهرها وقصقصت أجنحتها.

 

ما يحصل في الجنوب منذ 8 تشرين الأول الماضي يطرح أكثر من علامة استفهام حول دور الحركة وحضورها وحول مستقبلها. فالرئيس نبيه بري لطالما أعلن قبل العام 1990 أن الأمن في الجنوب مسؤولية «الحركة» وأهل الجنوب دون غيرهم، وهو يتصرّف من موقعه السياسي والرسمي كمرجعية لا يمكن تجاوزها، ولكن في الواقع هل يمكن للأحداث الجارية على الجبهة الجنوبية أن تتجاوزه وتتجاوز الحركة؟ وهل تقبل «الحركة» أن يعود الجنوب ساحة للسلاح الفلسطيني؟ وهل يقبل الرئيس بري بأن يعود الأمن في الجنوب فلسطينياً؟ وما هو موقفه من استعانة «حزب الله» بتنظيمات فلسطينية من حركة «حماس» و»الجهاد الإسلامي» لتنفيذ عمليات في المنطقة الحدودية؟ ومن إعلان «حماس» عن تشكيل طلائع طوفان الأقصى في لبنان ودعوتها الفلسطينيين في لبنان إلى التطوع والقتال؟

 

الثنائي واحد؟

 

وقائع الأحداث المتدحرجة لا تدلّ على أنّ «الثنائي الشيعي» واحد في هذه الحرب وفي الحروب التي سبقتها. حتى على المستوى السياسي ليسا واحداً في كل القضايا وإن كانا يجهدان لعدم إظهار التباينات، أو لإبقائها تحت السيطرة. فهما اختلفا حول ترشيح العماد ميشال عون قبل عام 2016 ثم حول انتخابه، واستمرّ خلافهما حول طريقة التعاطي معه طوال عهده. وهما مختلفان حول مقاربة التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون، وحول عدد من القضايا الأخرى خصوصاً لجهة العلاقة مع «التيار الوطني الحر»، ولا يمكن أن يتفقا على موضوع توسيع مشاركة التنظيمات الفلسطينية في المعارك على الحدود.

 

منذ العام 1990 خرجت «أمل» من المعادلة العسكرية. «حزب الله» خاض وحده حروب 1993 و1996 واحتفل بـ»يوم التحرير» وكأنّه من صناعته وحده. وحتى في حرب تموز 2006 بقيت «أمل» خارج المعادلة. بينما تُتَّهم بأنّ عناصر تابعة لها كانت شريكة في غزوة 7 أيار 2007 التي شنّها «الحزب» على «تيار المستقبل» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» في بيروت والجبل.

 

صحيح أنّ الحركة بدأت تأسيسها العسكري بمساعدة من الفلسطينيين وحركة «فتح»، إلا أنّها منذ العام 1978 بدأت تعلن استقلاليتها في الأمن والعسكر والسياسة. تاريخ إخفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا كان الحد الفاصل بين مرحلتين وزمنين. قبله كان اجتياح إسرائيل للجنوب في عملية الليطاني في 14 آذار 1978 منطلقاً لبداية هذا المسار، ولكن عباءة الإمام الصدر ظلّت تلجم الصراع. هو في الأساس ذهب إلى ليبيا من ضمن جولة عربية قام بها مطالباً بأن يكون الأمن في الجنوب لبنانياً، وأن تنسحب التنظيمات الفلسطينية من هناك، وأن يتولّى الجيش اللبناني الأمن، وألّا يتحمّل أبناء الجنوب نتائج الفلتان العسكري الفلسطيني واليساري على الأرض، وأن يكون هناك انضباط تحت سقف الدولة. وقد دفع ثمن هذا التوجه.

 

ما يواجهه الجنوب اليوم والرئيس نبيه بري وحركة «أمل» يشبه ما واجهته الحركة مع الإمام موسى الصدر. ونتيجة هذه العناوين التي رفعتها حصلت اشتباكات بينها وبين تنظيمات فلسطينية سبقت الإجتياح الإسرائيلي الثاني في العام 1982، الذي نقل الحركة إلى موقع التصدي للإحتلال، وتولّي عمليات المقاومة، ولعب دور عسكري رئيسي في الحرب في بيروت والضاحية الجنوبية، قبل عملية 6 شباط 1984 وبعدها، لتتحوّل إلى القوة الأبرز التي دعمها النظام السوري بينما كانت إيران تدعم «حزب الله».

 

منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979، عرضت على حركة «أمل»، ومنذ كان رئيسها السيد حسين الحسيني، أن تكون ذراعها الأمنية والعسكرية في لبنان. ولكن الحسيني رفض هذا الدور ولذلك بدأ مخطط تفكيك الحركة، ومن قلبها بدأت ولادة طلائع «حزب الله»، وخصوصاً مع انشقاق عدد من قيادييها الذين سمّوا أنفسهم «حركة أمل الإسلامية».

 

بري الوسيط والمتّهم؟

 

منذ خطف «حزب الله» طائرة الـ»تي دبليو إي» الأميركية في حزيران 1985، ووزّع الركاب الرهائن على عدة أماكن في الضاحية الجنوبية، ظهر نبيه بري وكأنّه بدأ يتحوّل إلى لعب دور الوسيط في تسوية العمليات التي ينفّذها «الحزب». شعر بخطورة المرحلة ولكنّه في النتيجة فشل في أن يحتفظ بالإمساك بأمن الجنوب، وبدا وكأنّه خرج من المعادلة العسكرية منذ العام 1990. حتى في حرب تموز 2006 لم تشارك «أمل». على العكس اتُّهِم مسؤولون فيها بأنّهم كانوا ينسّقون مع السفارة الأميركية من أجل إطالة أمد الحرب لتسهيل القضاء على «حزب الله». وُضِع هؤلاء في الخانة نفسها التي تم وضع قيادات من قوى 14 آذار فيها. ولكن عندما كان واضحاً أنّ هذه الحملات تصيب الرئيس نبيه بري مباشرة، سارع «حزب الله» إلى تطويق التسريبات حرصاً على وحدة الصف، ولأنّ الخلاف مع «الحركة»، بعد حرب طاحنة، كان ثمنه باهظاً، خصوصا أن الرئيس بري لعب دوراً حاسماً مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة من أجل التوصل إلى وقف العمليات الحربية التي انتهت بصدور القرار 1701.

 

في الحرب التي انخرط فيها «حزب الله» في سوريا لم تشارك «الحركة» أيضاً. صحيح أنّ «الحزب» أعلن أنّه يدافع عن البلدات الشيعية في سوريا وعن مقام السيدة زينب في دمشق، قبل أن يعلن السيد حسن نصرالله أنّه مستعد لإرسال آلاف المقاتلين، وحتى أن يذهب هو شخصيا للقتال دفاعاً عن النظام، اكتفت الحركة بمتابعة أخبار الحرب من بعيد. حكي خلال كل تلك المرحلة، منذ العام 2011، عن غضب النظام السوري من أداء رئيس مجلس النواب وحركة «أمل»، وعدم إعلانه التأييد المطلق للنظام، وعدم تقديم أي مساعدة عسكرية. وحكي عن أنّ هذا الغضب يتمثّل بعدم استعداد النظام لاستقبال بري. ولكن كل ذلك لم يبدِّل مواقف الرجل الذي كان بين عام 1982 وعام 1990 رجل هذا النظام الأساسي في لبنان.

 

هل يقبل «حزب الله»؟

 

لماذا لا تقاتل حركة «أمل» في الجنوب؟ وهل يجوز أن تنتظر هجوم الجيش الإسرائيلي ودخوله الأراضي اللبنانية لتنخرط في القتال؟ وهل موقفها هذا يضعها ضمن الخانة نفسها مع الجيش اللبناني الذي لا يزال عملياً خارج المعركة وتتحاشى إسرائيل التعرّض له وتعتذر عن استشهاد أحد عسكرييه نتيجة استهداف أحد مواقعه وتقول إنّه لم يكن مقصوداً؟ ربّما يجوز طرح السؤال بطريقة معاكسة: هل يقبل «حزب الله» أن تعود «الحركة» إلى العمل العسكري؟ وهل عودة «الحركة» إلى هذا العمل تحتاج إلى موافقة «الحزب»؟ وهل تُعتَبَر خروجاً عن تفاهم 1990 بين النظامين السوري والإيراني؟ وكيف يمكن أن يسمح «حزب الله» لـ»حماس» و»الجهاد الإسلامي» بالإنتشار في الجنوب والخروج من المخيمات وتنفيذ العمليات بينما لا تقوم الحركة بأي عميلة من هذا النوع؟

 

لا شك في أنّ الحلول المطروحة اليوم في الجنوب تشبه ما كان مطروحاً عام 1978 بعد الإجتياح الإسرائيلي. أي أن يكون الأمن في الجنوب من مسؤولية الجيش اللبناني، وأن تخرج القوات الفلسطينية من المنطقة، وأن يتمّ ضمان أمن الجنوبيين بهذه الطريقة تجنباً لردات الفعل الإسرائيلية على العمليات التي تُشَنّ من لبنان ضد أهداف إسرائيلية، وعلى إطلاق الصواريخ على مناطق الجليل. فشلت محاولة الإمام موسى الصدر للبننة الأمن في الجنوب وبقيت المنظات الفلسطينية تمسك بهذه الورقة بين العامين 1978 و1982. وفشل تطبيق القرار 425 نتيجة عدم تنفيذ إسرائيل انسحاب جيشها الكامل وإقامتها الشريط الحدودي الذي لم يمنع استهدافها بالصواريخ. اليوم هناك مطالبة بتطبيق القرار 1701 وإبعاد سلاح «حزب الله» من المنطقة وتسليم الأمن إلى الجيش اللبناني وقوات «اليونيفيل».

 

مرة جديدة يظهر أنّ قرار «حزب الله» هو تحاشي الحرب الكبرى والبقاء تحت سقف قواعد الإشتباك العبثية التي لا تبدّل في مسار الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة. وهو لذلك لن يقبل بالإنسحاب والإلتزام بمندرجات القرار 1701 طالما يعتبر أنّ إسرائيل هي التي لا تلتزم به، ذلك أنّ قبوله هذا الخيار يعني أن لا شيء يمنع أن يتخلّى عن سلاحه الذي لا يعود له معنى ولا عنوان لاستخدامه. بين تجربتي 1978 و2023 هل يعيد التاريخ نفسه؟ وهل سيكون هناك دور لحركة «أمل» والرئيس نبيه بري غير نقل الرسائل الموجهة إلى «الحزب»؟ وهل لا تزال معركة لبننة الأمن في الجنوب من مسؤوليات حركة «أمل» ومن العناوين التي يمكن أن تقاتل من أجل تحقيقها؟