كسرت أماني منيمنة حكر الرجال في العمل بمحطات الوقود ومعه الخجل الذي رافقها في الايام الاولى، لتشكل علامة فارقة في مدينة صيدا ومنطقتها، اذ تعتبر الوحيدة العاملة فيها وفي ذروة أزمتها، حيث يتطلب العمل المزيد من القوة والصبر معا لاستيعاب غضب زبون او تهدئة “فورة” معترض، على طوابير الانتظار لساعات طويلة.
في محطة “كوين” في الهلالية، تقف منيمنة (22 عاما) امام ماكينة تعبئة البنزين بكامل أناقتها، تسأل الزبون عن كمية الوقود التي يريد، تبدل لوحة شاشة العداد، تطلب فتح “الرزفوار”، تضع الخرطوم وتبدأ بسكب البنزين قبل ان تعيد الكرة مرة واثنتين وثلاثاً.. طوال ثماني ساعات من العمل الى جانب زملاء من الذكور بعدما اقتحمت عالمهم وتساوت معهم في البحث عن عفاف العيش وتأمين قوت اليوم لها ولعائلتها في ظل الازمة المعيشية والاقتصادية الخانقة والغلاء وارتفاع الاسعار.
ومحطة “كوين” أسسها رجل الاعمال مرعي ابو مرعي، وهو اول من فتح باب العمل فيها للعنصر النسائي، بل خصصها بالكامل لهن تشجيعاً للانخراط في سوق العمل، قبل ان يبيعها منذ نحو سبع سنوات تقريباً الى غسان غدار، ويتوالى العمل فيها العنصر الذكوري كما باقي المحطات، حتى جاءت منيمنة لتعيد شيئا من الذكريات فيها.
مع شح البنزين، ازدادت الاعباء الجسدية والضغوط النفسية على العاملين في المحطات مع وقوع اشكالات متنقلة هنا وهناك، لكن منيمنة لا تخشى احداً ولا تسمح بتجاوز الصفوف الطويلة، بيد انها تستقبل الزبون ببسمة وكلمات تخفف عنه تعب الوقوف في طابور لساعات، وتقول: “لقد انهيت المرحلة التعليمية المتوسطة مع دورات بهندسة الديكور، وعملت بهذه المهنة منذ العام 2017 ثم تركتها، الى ان وجدت نفسي في المحطة مع تفاقم أزمة المحروقات حديثاً، وما يخفف عني انه لا مضايقات من رفاقي الذكور هم يتعاطفون معي جداً، حتى الزبائن محترمون بداية يتفاجأون ثم يشجعونني على مواصلة العمل”.
وتضيف منيمنة “العمل ليس عيباً وفي اوضاعنا المعيشية الكارثية هذه يصبح ضرورياً، انني اشجع العنصر النسائي على العمل اولاً لتأمين الاكتفاء الذاتي ومساعدة العائلة في هذه الظروف الصعبة، وفي اي مجال ليس بالمحطة فقط انما في اي شيء يحافظ على الكرامة والاحترام، بعيداً من مقولة انه من المعيب على المرأة العمل او ان تتقن مهنة او حرفة يتقنها الرجال فهذا ليس حكراً عليهم”.
خلال العمل، ترتدي منيمنة سروال “جينز” ويتدلى شعرها على “تيشرت” تحمل اسم المحطة “كوين” وتضع بعض مساحيق التجميل على وجهها وتشدد على انه “في ظل شح البنزين لا افرّق بين ذكر او أنثى، على الجميع الالتزام بدوره لتعبئة خزان سيارته، ممنوع تجاوز الطابور و”الواسطات”، فلا احب ان اظلم احداً، وغير مستعدة على الاطلاق للمسايرة او الرشوة من اجل تجاوز دور الآخرين وعند اي غلطة، يتولى الشباب هنا معالجة الامر”، قبل ان تتنهد وتؤكد “دائما اكون حريصة جداً على المرونة سيما في هذه الازمة، حيث الانتظار نحو أربع ساعات وربما اكثر لتعبئة وقود للسيارة، انا هنا اتعاطف مع الناس التي تحرقها اشعة الشمس”.
وتتقاضى منيمنة نحو 700 الف ليرة لبنانية شهريا، وتعمل حوالى 8 ساعات يومياً واحياناً أقل او اكثر وفق الظروف، وتؤكد ان احلى كلمة عندي عندما ينتهي دوام عملي .. سماع “يعطيكي العافية”، غير انها لا تخفي انزعاجها من الشعور بأن “رائحة البنزين تلاحقني اينما ذهبت”، وهي حسمت رأيها انه في حال تقدّم لها عريس مثل حالتها من الطبقة الشعبية وطلب منها وقف العمل في محطة الوقود ستجيب بسرعة فليعُد من حيث أتى”.
ومنيمنة واحدة من عائلة مؤلفة من خمسة اشقاء ووالديها، تقول “قررنا التضامن مع بعضنا البعض لتمرير اسوأ ازمة معيشية يشهدها لبنان، عليك ان تفتح ثغرة في جدار الازمة الصعبة لتعيش بالحد الادنى بعيداً من الحاجة والسؤال مع الغلاء وارتفاع الاسعار وغياب كل الكماليات”، قبل أن تبتسم وتقول “لقد ارتفع سعر صفيحة البنزين اضعافاً مضاعفة كان السعر لا يتجاوز 30 الف ليرة اصبح الآن على ابواب 80 الفاً وهذا أمر مخيف”.
ومنذ تشرين الاول من العام 2019، يعيش لبنان ازمة اقتصادية صعبة ارتفع خلالها سعر صرف الدولار بشكل جنوني وقد لامس العشرين الف ليرة لبنانية بعدما كان ثابتاً عند 1515 ليرة لبنانية، وبالتالي تدنّت عملته الوطنية وخسرت قيمتها وقد تأثر استيراد النفط واصبح اللبناني يقف ساعات للحصول على 20 ليتراً من البنزين من محطات الوقود التي اقفل العدد الكبير منها ابوابها.