تُعدّ الدبلوماسية الركيزة الأساسية في السياسات الخارجية للدول وتمثيلها على مسرح العلاقات الدولية والحفاظ على مصالحها الإستراتيجية. ويُشكّل ممثّلوها أكانوا وزراء خارجية أم سفراء أم قناصل، رفعة في المجتمع السياسي. وأهم ما يمكن أن تحتويها حقائب الدبلوماسيين هي مزاياهم الشخصية، أي المتعلّقة بالأخلاق والثقافة العامة والسلوكيات والأنماط والأذواق العالية. وتحرص الدول عادة على اختيار «عسكرها الدبلوماسي» باتقان محترف. غير أنّ لبنان قد أُصيب في السنوات الأخيرة بـ»تلوّثات دبلوماسية»، بعدما كان السلك الرفيع يزخر بثلّة من الشخصيات التي أسمعت صوت لبنان في المحافل الأممية، رغم عناصر قوّته المتواضعة. فلم يكن يملك جيشاً كبيراً يجرّه إلى خارج الحدود ولا ثروات طبيعية ونفطية تُؤثّر في الإقتصاد العالمي، ولا كان لاعباً إقليميّاً في النظام الدولي. بل يغتني بوزراء وسفراء من طينة القادة الذين يحجزون مكاناً لوطنهم بين الأمم كسليم تقلا وحميد فرنجيه وشارل مالك وفؤاد بطرس وإيلي سالم وغيرهم، يعكسون كيف كان لبنان ينتقي دبلوماسييه.
الجدير بالذكر أنّ الدبلوماسية اللبنانية ليست وليدة العصر الذي شهد تطوّراً في مفاهيم ومدارس العلم السياسي، بل تعود إلى زمن سحيق. ففي دراسة لـ»أكاديمية الإمارات الدبلوماسية» صدرت في شباط 2017، من إعداد سفير بريطانيا السابق في بيروت توم فيلتشر ونائب رئيس الأكاديمية السفير عمر البيطار، أشارت إلى أنّه «لم يكن يُساور الفينيقيّون – والذين يُنظر إليهم غالباً باعتبارهم أوّل من مارس الدبلوماسية الرسميّة – أيّ شكّ حول ما يريدونه من بعثاتهم».
لكن يبدو أنّ أحوال وخِصال البلاد تنقلب كلّها مع بعضها في سلسلة واحدة مترابطة من الثقافة والفنّ والأدب والإقتصاد والسياسة في شقّيها الداخلي والخارجي. نذكر على سبيل المثال، البلبلة الدبلوماسية التي وقعت بين بيروت والفاتيكان على خلفية رفض الأخير تعيين الدبلوماسي اللبناني جوني إبراهيم سفيراً لديه «نظراً إلى صلاته بالماسونيّة». أو تصريحات وزير الخارجية السابق شربل وهبة، التي أدّت إلى أزمة مع الدول العربية والخليجية. فاللباقة هي مرادفة للدبلوماسية، كما عبّر عنها إسحق نيوتن «إنّ اللباقة هي موهبة إثارة نقطة من دون إثارة عداوة». أمّا النكسة الأخيرة التي شوّهت الدبلوماسية، فهي قضية سفير لبنان لدى باريس رامي عدوان واتّهامه بشبهة الإغتصاب بعد شكويَين تقدّمت بهما موظّفتان سابقتان في السّفارة. هذا الملف فتح نقاشاً قانونيّاً ودبلوماسيّاً بين الدولتين، اللتين تشهدان أيضاً تضارباً في الصلاحيات القضائيّة بشأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ودفعت بوزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بوحبيب إلى إرسال لجنة مؤلّفة من الأمين العام للخارجية ومدير التفتيش وبدأت العمل على أن تتكوّن لديه فكرة لما يتوجّب القيام به في هذا الشأن.
الدبلوماسية مرآة الدولة
لا تمثّل قضية السفير عدوان شأناً خاصّاً فقط، إذ يرى مدير كلية الحقوق والعلوم السياسية (الفرع الثاني) وأستاذ العلاقات الدولية د. أمين لبّس في حديث لـ»نداء الوطن»، أن «الدبلوماسية هي ترجمة لسياسة الحكومة. في حين أن سياستنا الخارجية اليوم غير موحدة، عازياً السبب إلى تكوين السلك الدبلوماسي على قاعدة الزبائنية السياسية. فبعض القناصل (منعاً للتعميم) تمّ اختيارهم كجوائز ترضية ومن خارج الكادر الدبلوماسي كما حصل مع عدوان».
استطراداً نشير إلى أنّ تعيين الأخير بناء على المرسوم رقم 1384 «سفيراً فوق العادة مُطلق الصلاحية لدى الجمهورية الفرنسية»، قد أثار حينها موجة استنكارات في الأوساط المعنية، كون عدوان دبلوماسياً من الفئة الثالثة، فجرى تهريب قرار ترقيته إلى الفئة الثانية في مجلس الوزراء، وأيضاً «من خارج الملاك في السلك الخارجي في وزارة الخارجية والمغتربين» (وفق المرسوم). وتجدر الإشارة إلى وجود دعوى بحقّه (عدوان) لم يُبتّ بها، تقدم بها سفير لبنان السابق لدى هولندا زيدان الصغير، تتعلّق «بسلوك الموظف (حينها) في السفارة اللبنانية في هولندا».
إنطلاقاً من هنا، يُشدد لبّس على «ضرورة اعتماد الكفاءة والمناقبية في اختيار أعضاء السلك الدبلوماسي. وألّا تتحول مراكز القرار إلى تناتش سياسي وشرذمة خارجية، إذ نرى أن كل سفير أو قنصل يتصرّف حسب ولائه لزعيمه أو للطرف السياسي الذي ساهم في تعيينه. هذا الواقع إضافة إلى عدم وجود سياسة خارجية موحّدة، أدى إلى تحلّل دبلوماسي وغياب عن الساحة الدولية التي كان لنا فيها دور بارز في صناعة القرارات الدولية. ومثال على ذلك القرار (425) الصادر عن مجلس الأمن بفضل غسّان تويني (مندوب لبنان لدى الأمم المتحدة آنذاك) والذي يقضي بانسحاب اسرائيل من الأراضي اللبنانيّة بشكل واضح من دون أيّ شرط، مسجّلاً انتصاراً للدبلوماسية اللبنانية الواعية، على عكس القرار (242) الذي أحاطه الغموض حول انسحاب القوّات الإسرائيلية من أراضٍ (غياب «أل» التعريف) احتلّت في النزاع الأخير، مقابل الاعتراف باسرائيل».
بالعودة إلى ملفّ السفير عدوان، قال لبّس: «إذا ثبتت الإدعاءات، يجب على الخارجية رفع الحصانة عنه ومقاضاته، أكان في لبنان أم في فرنسا (حيث وقع الجرم)». وأوضح أنه يمكن لباريس أن تعتبر عدوان «شخصاً غير مرغوب فيه» persona non grata بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، ويتمّ ترحيله إلى وطنه الأمّ».
الحلّ والربط في يد الخارجية
أمّا عميد كليّة العلاقات الدولية في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ (فرنسا)، بول مرقص، فيشرح لـ»نداء الوطن» أنه بالعودة إلى المادة التاسعة (من اتفاقية فيينا)، «أنّ الدولة المعتمد لديها في أي وقت ومن دون ذكر الأسباب أن تبلغ الدولة المعتمدة أن رئيس بعثتها أو أي عضو من أعضائها الدبلوماسيين أصبح شخصاً غير مقبول. وعلى الدولة المعتمدة حينئذ أن تستدعى الشخص المعني أو تنهي أعماله لدى البعثة وفقاً للظروف. أمّا إذا رفضت الدولة المعتمدة تنفيذ الإلتزامات المفروضة عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة أو لم تنفذها في فترة معقولة، فللدولة المعتمد لديها أن ترفض الاعتراف بالشخص المعني بوصفه عضواً في البعثة».
يضاف الى ذلك أنه «يعود فقط للدولة المعتمدة أن تتنازل عن الحصانة القضائية المقررة للمبعوثين الدبلوماسيين وللأشخاص المستفيدين من هذه الحصانة وفقاً لنص المادة (37)، ويجب دائماً أن يكون التنازل صريحاً».
وبالعودة أيضاً الى القانون اللبناني وتحديداً في المادة 21 من قانون العقوبات اللبناني «تطبق الشريعة اللبنانية خارج الأراضي اللبنانية: على الجرائم التي يقترفها موظفو السلك الخارجي والقناصل اللبنانيون ما تمتعوا بالحصانة التي يخولهم إياها القانون الدولي العام».
لذلك يتبين لنا، أنّ «الحصانة التي يتمتع بها السفير تشمل أي جريمة يرتكبها سواء تعلّقت بعمله الدبلوماسي أو بحياته الخاصة، سواء ضبط فيها بحالة الجرم المشهود أو غير المشهود. وتقضي هذه الحصانة بحسب القانون الدولي بمنع التعرّض لشخص المبعوث ومنزله ومقرّ البعثة، بحيث لا يجوز أن يتعرض لأي صورة من صور التوقيف أو القبض أو المحاكمة أو حتى إلزامه بالشهادة أمام القضاء المحلي. ويجوز التنازل عن الحصانة الدبلوماسية من قبل دولة المبعوث فقط بشكل صريح».
بالنسبة للاجراءات التي يجب اتباعها، يختم مرقص قائلاً: «يجب أن يقدّم الطلب لرفع الحصانة الدبلوماسية عن سفير لبنان في دولة أجنبية إلى وزارة الخارجية المختصّة في قضايا الشؤون الدبلوماسية والعلاقات الخارجية للبنان. ويجب تقديم الطلب الرسمي إلى الوزارة، ومن ثمّ ستتم دراسة الطلب واتخاذ الإجراءات المناسبة وفقاً للقوانين والإجراءات المعمول بها في لبنان».