ليس خافياً القول انّ بعض السفراء المُعتمدين في لبنان يمتلكون كثيراً من الاسرار، وقد تحوّل بعضهم خزائن حقيقية لِما يَستحيل الكشف عنه في الداخل. ومع احتفاظ معظمهم بسرية المعلومات قد يضطر البعض الى الكشف عن جزء منها، وهو ما فعلته السفيرة الفرنسية آن غريو في خطاب العيد الوطني لبلادها، وتحول جزء زهيد منه نسخة إضافية من «ويكيليكس». وعليه، لماذا تعرضت لكل هذا الرَّجم من غير مصدر؟
تعترف مراجع سياسية وديبلوماسية مُقيمة بأنّ معاناة بعض السفراء العرب والغربيين المعتمدين في لبنان تقترب من أن تكون واحدة عند تعاطيها مع أركان المنظومة وبعض القادة السياسيين والحزبيين لجهة طريقة التعاطي مع موقفين على الأقل من كل حدث. فقلائل منهم مِمّن يساوون بين تصرفاتهم ومواقفهم المعلنة والمضمرة. ذلك انّ البعض منهم يحتفظ بنسبة عالية من الازدواجية في تَعاطيه مع مُحاربيه والداخل اللبناني وما يسرون به إلى السفراء عند بحثهم عن المواقف التي عليهم ابلاغها الى مراكز القرار في بلدانهم، بطريقةٍ أبرزت كثيراً من الفوارق بين ما يُدلون به في الغرف والصالونات الديبلوماسية المغلقة وبين ما يقومون به في الواقع.
وانطلاقاً من هذه المعادلة، تنظر المراجع الديبلوماسية الى توقيت ومضمون وشكل الرسالة الأخيرة للسفيرة غريو التي وَجّهتها الى اللبنانيين ومواطنيها في الاستقبال السنوي التقليدي الذي دعت اليه في 14 تموز في قصر الصنوبر لمناسبة العيد الوطني لبلادها. فهي عَبّرت في جزء منه بصراحة وجرأة لم يسبقها اليها احد من نظرائها الديبلوماسيين المتحفّظين عن كثير من الحقائق التي يغلّفونها بما تسمح به اللغة الديبلوماسية من عبارات «التورية» التي تسمح بكثير من التفسيرات المُلتَبسة على كثير من الناس، وقد لا تكون مفهومة إلا لدى من يعنيهم التوضيح او الرد.
ففي توقيتٍ دقيق، اختارت غريو ان تقول كلمتها في ابرز مناسبة وطنية فرنسية، فهي تحزم حقائبها للانتقال إلى مهمة ديبلوماسية في الادارة المركزية لوزارة الخارجية الفرنسية، في خطوةٍ تُترجم وجود قرار بترقية استثنائية نالتها نتيجة نجاحات حققتها في حياتها الديبلوماسية في بيروت وقبلها. ولم يكن لديها حَرج في أنها وَجّهتها بعد الجولة الاولى من مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي الخاص الى لبنان جان إيف لودريان في بيروت، وتزامناً مع انتقاله إلى الرياض والدوحة لمشاورات عاجلة لا بد منها مع أعضاء «لقاء باريس الخماسي» المَعني بالملف اللبناني. وتزامناً مع التطورات الناجمة من الفشل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومواجهة آثار مسلسل الازمات التي تعصف بالبلاد وتعدّد وجوهها، الى أن حَوّلتها وجهة لكل اشكال المساعدات الدولية، لا سيما الفرنسية منها.
امّا في المضمون، فقد عبّرت غريو عن مدى فهمها للحقائق التي تُخفيها مظاهر الازمات السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد، وقد بذلت بلادها كثيراً من الجهد من أجل إنقاذ الوضع وإطلاق ورشة عمل رئاسية تنطلق من توفير الاجواء التي تسمح بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية لِسَد شغور أصابَ رأس الدولة. ومن اجل اكتمال عقد السلطات والمؤسسات الدستورية التي بُنيت على قواعد دستورية وقانونية وادارية فرنسية منذ عقود وهي تفهم هذه التركيبة من جوانبها المختلفة، وقادِرة على فهم ما يَعوق كل أشكال التعاون بين السلطات والمؤسسات كما يجب ان تكون لضمان فعاليتها ولتقوم بالمهمات المنوطة بها.
اما في الشكل فقد كانت غريو بعيون نظرائها الديبلوماسيين صادِقة إلى حدّ بعيد، وجَريئة لمجرد مقاربتها للحقائق التي يعرفونها بما يفيض عن فَهم اللبنانيين لقادتهم ومسؤوليهم. وقد أصابت مقتلاً في بعض العناوين التي تناولتها. فلم تُخفِ الحقائق التي يفهمها بعض اللبنانيين المتابعين لكثير من التفاصيل التي يرغب البعض بإخفائها. ولذلك، والى جانب اللوم الموَجّه الى مَن يتجاهلها من ديبلوماسيين ومسؤولين من مواقع مختلفة ولأسباب معروفة، فقد سُرّ كُثُر بصراحتها عند مقاربة طريقة التعاطي التي مَيّزت أداء المسؤولين اللبنانيين فيما بينهم ومع الوساطات الخارجية، لا سيما منها الفرنسية، منذ ان أطلقَ أولاها الرئيس ايمانويل ماكرون من بيروت في زيارته غير المسبوقة في 6 آب 2020 غداةَ تفجير مرفأ بيروت ومُعايَنته النكبة التي حلّت بالعاصمة ومواطنيها. وهي بذلك عَبّرت بالانابة عما يختلج صدور اللبنانيين وما قصده أركان المنظومة مِن تجاهلها ورفع اللوم عن انفسهم والتلهّي بتبادل الاتهامات والمكائد، التي تسمح بإضاعة المسؤوليات وتَبرئة المتهمين منهم بطريقة أثبتَت نجاحها في كثير من الأزمات الكبرى التي عرفتها البلاد.
وبناء على كل ما تقدم، لم يفهم الديبلوماسيون الغربيون والعرب ومعهم قادة لبنانيون من مواقع مختلفة أسباب الحملة التي أطلقها البعض تِجاه ما قالته غريو، وما كشفت من عَورات يحاول البعض إخفاءها او حَجبها على الأقل مِن سجله وسيرته الذاتية الملطّخة بكل أشكال الارتكابات والجرائم في حق لبنان واللبنانيين. ولذلك توجّه هؤلاء الى مَن حاول جَلدها ورَجمها من مواقع مختلفة، عن صدق اشارتها عند تَسلّمها مهماتها الديبلوماسية بعد اقل من شهرين على تفجير مرفأ بيروت الى «بيروت المدمَّرة». واكتشافها حينئذٍ انّ هناك «دولة غائبة، وما زالت». وذلك في مواجهة «قدرة الشعب الهائلة على الصمود» و»تفاني الجيش وقوى الأمن الداخلي وفرق الإطفاء، والطاقة المُذهِلة التي يتمتعّ بها المجتمع المدني. وقد كانت طاقة مُعدِية…».
هل ارتكبت غريو جريمة عندما تحدثت عن «حَشد جهود فرنسا والفرنسيين من أجل لبنان» وما اختزَنَه قصر الصنوبر وميدان سباق الخيل من «الحاويات والمعداّت والمواد الأساسيّة، التي تمّ شَحنها عبر البحريّة الفرنسية وسُفننا التجاريّة. كما كانت الهبات تتدفقّ من كافة الشركات الفرنسية الموجودة في لبنان»؟ وهل كشفت غريو سراً خطيراً عندما تحدثت عن شكوك البعض «أنّ فرنسا تقف دوماً إلى جانب اللبنانيين عندما يحتاجون إليها؟».
وهل أخطأت عندما تحدثت عن «رباطة جأش ورصانة عائلات ضحايا انفجار الرابع من آب على الرغم من ألمها البالغ، وقد جاءت لمقابلتي كي تطالب بالعدالة لأحبّائها»، وعندما قالت انّ «لبنان ليس على ما يرام» ورَفضها قَوْل البعض «انّه على ما يرام وقد تمّ تجاوز الأزمة»، فيما هم يعرفون ان «الّاستقرار الحالي هو ظاهري وخادِع»؟. إذا ما وضعت «جانباً المساعدات الكبيرة التي تقدمّها الجالية اللبنانية والمجتمع الدولي». وهل كانت مخطئة عندما أشارت الى القطاع العام والموظفين الذين «يواصلون مزاولة عملهم لقاء أجر زهيد للغاية»، ولفتت الى «الإستخفاف والزبائنيّة والإتجار غير المشروع والفساد». وعن «الخوف الذي يَنتاب «اللبنانيين الذين قابَلتهم» من «عدم العثور على الدواء لفردٍ من العائلة مُصاب بالسرطان والخوف من عدم التمكّن من تسديد قسط ولدٍ في المدرسة أو من تأمين القوت له»؟. وقد تكون خطيئة غريو أنها أكدت استمرارها في الاصغاء الى «المخاوف الوجوديّة التي تبوحون لي بها بثقةٍ خلال لقاءاتنا»، ودعوتها الى «التصديّ لها من خلال حلول مستدامة» وأحاديث البعض عن «إعادة النظر بالتنظيم المناطقي للبنان»، ونصيحتها بـ»تطبيق اللامركزية التي نَصّ عليها اتفاق الطائف!».
قد تكون جريمة غريو أنها نشرت نماذج عن وثائق لـ»ويكيليكس فرنسية» عندما لفتت نظر اللبنانيين إلى انه «ما من رئيس للجمهورية منذ تسعة أشهر كي يُسمِع صوت لبنان على الساحة الدولية»، وأن لبنان «غاب عن الأجندة الدولية في حين أن الشرق الأوسط يشهد تطورات كبرى»، وان «الحكومة لا تُعنى إلا بتصريف الأعمال، والبرلمان لم يَعد يُشرّع»، وانه «شلل مميت بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين». وعلى من يريد ان يعتبر فليعتبر، إذ انه لا مجال امام المعنيين لتجاهل خطاب غريو سوى اللجوء الى «سياسة النعامة» المعتمدة في لبنان.