أدوار غامضة في معركة التوطين على يد الأمم المتحدة
الجمهورية أمام مفاجأة اللقاءات الرئاسية
وأهمية الممارسات في تذويب الأزمات السياسية
كان الأسبوع الفائت يطوي آخر صفحاته، عندما التقى معظم القادة اللبنانيين في عشاء السفارة السعودية، وهو ليس بعيداً عن بيروت. وقف الرئيس حسين الحسيني، وهو نجم اللقاءات التاريخية، عندما شاهد الرئيسين سعد الحريري والعماد ميشال عون، شعر انه بالامكان اختيار رئيس للبلاد، بعد انقضاء عامين على الفراغ الدستوري.
والذي نقل هذه الرواية، لم يكن يعرف عدد الحضور، ولا نسبة الغائبين، لكنه، كما كان الرئيس حسين الحسيني نجم برلمان الطائف والداعية التاريخي الى وثيقة الوفاق الوطني الا انه كان يعرف أن عقدة رئاسة الجمهورية منذ قرابة ٢٤ شهراً هو الخلاف الثلاثي بين السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية وأركان الجمهورية اللبنانية.
وينقل المراقبون عن الرئيس سعد الحريري، أن اللبنانيين بإمكانهم خلال خمس دقائق، الاتفاق على رئيس للبنان لو أنهم يعرفون ماذا يريدون، وماذا لا يريدون، وما يحاصرهم من عقبات ومدى انطباع الحاضر على الدستور.
أحب الوزير السابق زياد بارود، أن يعطي اشارة الى الحل المطلوب، فقال إنه يصعب تظهيره في الداخل، ويصعب أيضاً استنساخه في الخارج، لأن المخارج تصنع في لبنان، والحق على الجميع، لا على فريق واحد.
عندما تألفت اللجنة الوطنية لاعداد نظام انتخابي جديد، تردد أن الوزير زياد بارود سأل رئيس اللجنة الوزير الراحل فؤاد بطرس، عما اذا كان يستعمل الأسلوب ذاته الذي لجأ اليه الرذيس فؤاد شهاب، فرد بهدوء: لقد تعلمت منه الحكمة والروية والحذاقة، في تجنب الارتجال في المواقف. وأردف: لقد لفتُّ نظر الأمير الشهابي، عندما كان قائداً للجيش وزار المحكمة العسكرية مع وزير الدفاع الأمير مجيد ارسلان، واعترضتُ – أنا كقاضٍ – على تصرف غير دستوري، وذهب بعد ذلك كل منا في طريقه. وعندما شكّل الرئيس شهاب حكومته الأولى، وقوبلت ب انقلاب أبيض صارح الرئيس شهاب رئيس الحكومة الشهيد رشيد كرامي، بأنه اختار وزيراً ممتازاً من بلدة بكفيا، لكن ميزته ذهبت أدراج الرياح، لأن رئيس الكتائب اللبنانية هو أيضاً من بكفيا.
وتابع الوزير بارود: عرفتُ لاحقاً أن العميد ريمون اده أوفد شخصاً موثوقاً به الى الرئيس شهاب، واقترح عليه حلاً سريعاً، وهو تأليف حكومة رباعية بدل الحكومة الثمانية، من الرئيس رشيد كرامي والرئيس حسين العويني عن المسلمين، ومنه، ومن الشيخ بيار الجميل عن المسيحيين.
هل كانت الحكومة الرباعية هي الحل؟
لا، فإن الحل وُلد ثانية بعد الحكومة الرباعية ساعة قدّم العميد ريمون اده استقالته منها، وأراد رئيس الجمهورية توسيع الحكومة. ويُقال إن فؤاد شهاب تذكَّر الرجل الذي اعترض على قرار حكومي غير دستوري، وطلب من المدير العام للرئاسة الياس سركيس البحث عنه وإخباره أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يريدان الاجتماع به في اليوم التالي.
في ذلك الوقت كان فؤاد بطرس قد ترك القضاء، وانصرف الى المحاماة، لكنه عثر عليه في مصيف عاليه، فاتصل به وطلب الاجتماع به في مقهى يقع في منطقة فرن الشباك وأخبره بأن رئيس البلاد يدعوه الى اجتماع مع رئيس الحكومة في ذوق مكايل.
وهكذا، عرض الرئيسان شهاب وكرامي على فؤاد بطرس الانضمام الى الحكومة الرباعية كوزير للعدل.
هل هذا هو القرار الوحيد، في محفوظات الرئيس شهاب والوزير بطرس؟
لا، ففي أحد الاجتماعات اصطحب معه الرئيس شهاب خبيراً فرنسياً، أدلى بآراء وبمواقف لا تتلاءم مع مفاهيم الوزير فؤاد بطرس، الأمر الذي سبّب استياء رئيس الجمهورية، وحمله على رفض أفكاره، مما أساء الى الوزير الذي أخذ يقاطع الاجتماعات التي كان يُدعى اليها.
وفي اليوم التالي حضر الخبير الفرنسي الى القصر الجمهوري، وأبلغ الرئيس شهاب بأن الوزير بطرس كان محقاً بملاحظاته، وينبغي لنا جميعاً الاعتذار منه.
ودعي وزير التربية الى اجتماع يعقد برئاسة رئيس الجمهورية، وفي بدايته صارح الرئيس شهاب الحاضرين بأننا جميعاً مدينون باعتذار الى الوزير بطرس الذي كان محقاً في ملاحظاته والاعتراضات، وكنا نحن ضده.
وفي رأي مرجع سياسي، ان من حق كل مسؤول الادلاء بما يريد، لكن المسؤول الشجاع، هو من يملك شجاعة الاعتذار عن الخطأ، والتراجع عنه، والتسليم بما هو مصيب.
وهذا ما ينبغي للمسؤول، أياً كان موقعه، أن يملك شجاعة الاعتذار عن خطأ بدر منه، والاقلاع عما اكتشف انه يشكل اساءة الى الحكم، والى المسؤول الذي صدر عنه.
ولو كانت هذه الأمور سائدة، لما كانت الادارة اللبنانية مليئة بالأخطاء، وحافلة بالأخطاء والعثرات.
الكارثة والمصيبة
لماذا أصاب رئاسة الجمهورية، ما أصابها من تراجع وآحباط، ولماذا يمضي الرئيس أربع سنوات من حكمه في معالجة الأسباب التي جعلت الحكم مصاباً بالضعف والعثرات؟
ولماذا يستمر الفراغ في رئاسة الجمهورية منذ عامين، ولا يجد السياسيون مخرجاً لأزمة تتعقد ولا يجد لها أحد حلاً يقودها الى الاصلاح الدستوري؟
والجواب ان هناك من يريد رئيساً للبلاد يتولى ادارة الأزمات، لا حل المشاكل العالقة، وهذا ما يجعل البلاد مهددة بالانهيار.
ولعل الأزمة المتفاقمة الآن، بين الادارة الأميركية والمصارف اللبنانية تشكل أزمة نقدية بالغة الخطورة، وتدفع الى مواجهتها بأسلوب جديد، مغاير للمعالجات السابقة، ولا تبشر بحلول ايجابية.
ويبدو أنه من الصعب تصور أمراء الطوائف يواصلون سيطرتهم على البلاد، والتحكم بالأوضاع، من دون قيامهم بعملية نقد ذاتي. فهم يتصرفون كأنهم أشباه آلهة، وإن كشفت المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية، أن اللبنانيين يستحقون دولة ديمقراطية، في حين أن التركيبة السياسية لا تستحق سلطة. والناس كانت تدرك أن الانتخابات الرئاسية والنيابية الضائعة في ديمقراطية الخوف من الانتخابات، وليس صحيحاً أن الاعتبارات الأمنية هي التي حالت دون الذهاب الى الانتخابات النيابية في موعدها، ولا ما قاد الى الشغور الرئاسي.
والصحيح أن بين الأمراض التي يعانيها لبنان، واحداً اسمه كارثة التمديد، والمنطق الوطني والديمقراطي والدستوري يقضي بأن تكون القاعدة، هي لا شيء يمنع حصول الانتخابات في مواعيدها.
كان اقتراح الرئيس نبيه بري، اجراء الانتخابات النيابية قبل اجراء الانتخابات الرئاسية، مؤشراً الى وجود تباينات بين تيار المستقبل الداعي الى النزول الى المجلس النيابي وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنه مؤشر سلبي، باعتبار ان الانتخابات النيابية، تنطوي على تغيير في طبيعة النظام، ويقود الى ما اقترحه سابقاً العماد عون ويرفضه بعض رموز تيار ١٤ آذار، أو نجوم تيار المستقبل في البلاد.
تبدو هذه الأمور عسيرة، وصعبة المراس، وجاء اقتراح الرئيس أمين الجميل، في مئوية سايكس – بيكو اشارة واضحة الى أن لبنان يتلقف الأزمات، لكنه يبقى عصياً على الانهيار، ايماناً من القادة الكبار في حياته السياسية بأن ما عجزت عنه سياسة توطين الفلسطينيين في لبنان، ستعجز عنه مخططات توطين النازحين السوريين فيه وفي الدول المجاورة.
وهذه نظرية الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون، نظرية متخلفة، لجأ اليها قبل أكثر من نصف قرن ياسر عرفات لكن الاجماع اللبناني في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، أعاد النور الى الآفاق المظلمة، بعدم الاستسلام الى بان كي مون وأفكاره وسيئاته السياسية في خضم المحنة اللبنانية.
كيف كانت تعالج هذه الأمور في العام ١٩٧٦، وفي عزّ احتدام الأزمة بين اللبنانيين والفلسطينيين.
في ١٦ أيلول ١٩٧٦، اجتمع حسن صبري الخولي بالرئيسين فرنجيه وشمعون في الكفور، وسرّبت مصادر الجامعة، ما يفيد أن الخولي اصطدم بموقف الرئيس فرنجيه الذي حدّد أولوية الانسحاب الفلسطيني من الجبل وتطبيق اتفاق القاهرة كشرط رئيسي لدخول باب السلام اللبناني – اللبناني. وأشار فرنجيه الى أن ممثلي الجامعة عندما يبحثون ويطلبون انسحاب المقاتلين من الجبهات إنما يساوون الفلسطينيين وحلفاءهم باللبنانيين، وهذا الأمر يبدو غريباً جداً عن الواقع والمنطق، إذ انه كيف يطلب من اللبناني أن ينسحب من بلده وأرضه. فالانسحاب يجب أن يتوقف فقط على الفلسطينيين حيث لا سبب لتواجدهم ولا دخل لهم في الأماكن التي يحتلونها وهي تبعد مسافات كبيرة عن المخيمات والمعسكرات الفلسطينية. وصدر عن رئاسة الجمهورية بيان أوضح ثوابتها في تلك الفترة:
١ – لا مفاوضة مع الجانب الفلسطيني قبل وقف اطلاق النار وجلاء مقاتليه عن مواقع الاقتتال، خصوصا جبهة الجبل.
٢ – تنفيذ اتفاق القاهرة خصوصا ما يعالج الوجود الفلسطيني في لبنان.
٣ – وضع جدول زمني مختصر المدة لمراحل تنفيذ هذا الاتفاق.
وأبدى الرئيس فرنجيه في الختام موافقته على كل ما يوافق عليه الرئيس المنتخب الأستاذ الياس سركيس، اذا حضر الاجتماع بذاته.
في ١٧ أيلول، اتجهت كل الأنظار الى شتورا بارك أوتيل لتتبّع أخبار الاجتماع الرباعي الذي عقد بحضور الرئيس الياس سركيس وياسر عرفات واللواء ناجي جميل والدكتور حسن صبري الخولي للبحث في الأزمة اللبنانية ووضع الحلول لها مع جدول تنفيذي لهذه الحلول.
في ٢٠ أيلول، عقد مجلس الوزراء جلسته الأخيرة في عهد الرئيس سليمان فرنجيه. وقد غاب عنها الرئيس رشيد كرامي كان يزور دمشق والرئيس عادل عسيران والأمير مجيد ارسلان الذي أرسل اعتذارا لعدم تمكّنه من الحضور بسبب حال الطريق. واتخذ المجلس في جلسته قراراً بتعديل قانون الجيش لجهة خفض سنّ التقاعد، وآخر باستعادة مشروع انشاء المحكمة العليا. وأبقى المجلس جلساته مفتوحة حتى الثالث والعشرين من أيلول.
مساء اليوم نفسه، انتقد كمال جنبلاط اشتراك الرئيس المنتخب الياس سركيس في اجتماع شتورا واتهمه بطرح وجهات نظر مماثلة لوجهات نظر جبهة الكفور. اذ اعتبر أن اجتماع شتورا كان مبادرة خاطئة لأنه كان على الرئيس سركيس ألاّ يجتمع بأحد الى أن يقسم اليمين الدستورية ويتسلّم مهماته. وأضاف ان قبوله الاجتماع بشخصية سورية لا تتناسب مع مقامه هو أمر غير مقبول، لأنه كان يجب على الأقل ان يأتي الى شتورا رئيس الحكومة السورية كممثل للسلطة الرسمية. وقال جنبلاط: قيل لنا إن الرئيس كان يطرح في الاجتماع بعض وجهات النظر التي لا تنفصل عن وجهة نظر جبهة الكفور، وهذا أمر خطير بالنسبة الينا، خصوصا ان السوريين وجبهة الكفور يتحدثون باللغة نفسها وبالمنطق ذاته.
وأقسم الرئيس سركيس اليمين الدستورية، وسبقت جلسة القسم، بدل أن تتبعها مراسيم التسليم والتسلّم بين الرئيس فرنجيه وسركيس، وشرب الجميع نخب العهد الجديد.
كانت جلسة اليمين الدستورية مختلفة عن أي جلسة سبقتها، وقد زاد من هيبتها حضور بعض رموز الشهابية وفي مقدمتهم العقيد كابي لحود والرائد نعيم فرح والمقدم سامي الخطيب.
في ٢٤ ايلول، وفيما كان الرئيس سركيس يستقبل في قصر بعبدا عدداً من المهنئين، طرحت تساؤلات حول امكانية انعقاد الجلسة الموعودة للجنة الرباعية اللبنانية – الفلسطينية – السورية – العربية، فأجاب الدكتور الخولي بعد زيارته رئيس الجمهورية بأنه تمنى على أطراف الاجتماع تأجيل انعقادها الى حين الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة من أجل انجاحها، وأستطيع أن أؤكد أن التأخير هو من أجل ضمان النجاح وأنه لن يكون إلاّ لفترة قصيرة للغاية.
يومذاك، أخذت ملامح المواجهة العسكرية تتوضح مع الموقف الصادر عن المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية والذي انتقد مواقف الرئيس الجديد معتبرا أنه لا يعبّر عن جميع أطراف الصراع اللبناني. وعارض المجلس مطالبة المقاومة بالانسحاب من الجبل، وأعلن إصراره على انسحاب الفريق الآخر من المتن الشمالي والمناطق الوطنية التي احتلها بدءاً بالضبية وانتهاء بالنبعة.
وتعبيراً عن رغبة الرئيس الجديد في تسهيل تواصله مع جميع القوى وبخاصة تلك التي لا يمكنها العبور الى القصر الجمهوري، أعلنت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية أن الرئيس اتخذ مركزاً اضافياً موقتاً تابعاً لرئاسة الجمهورية في مبنى المتحف الوطني في بيروت تسهيلاً لاتصال مختلف الفرقاء بالرئاسة.
وفي اليوم التالي، قَبِل الرئيس سركيس استقالة الرئيس رشيد كرامي التي نقلها الدكتور حسن صبري الخولي الى بعبدا، وطلب اليه وسائر الوزراء متابعة تصريف الأعمال الى أن تشكّل وزارة جديدة.
قام الرئيس سركيس بمحاولة أخيرة للتفاهم مع كمال جنبلاط، وتجنّب معركة عسكرية. واجتمع معه في ٢٦ أيلول في مبنى المتحف الوطني، ولكن من دون التوصل الى نتيجة، إذ أعلن الزعيم الدرزي بعد انتهائه انه كان اجتماعا مفيدا أظهرنا فيه الواقعية التي تفرض اليوم معالجة القضية في شكل يطمئن اليه جميع الفرقاء، وذلك قبل الانسحاب من الجبل. فهناك الأرض أرضنا والبلاد بلادنا ولا يمكن أن نتخلّى عن سكانها. ويجب التفكير قبلاً في انسحاب الكتائب من ضواحي بيروت، وفي تمكين أبناء سبنيه والنبعة وتل الزعتر والكرنتينا وجسر الباشا وضبية وسواها من العودة اليها.