Site icon IMLebanon

“كمين” بناما: حقبة جديدة في مواجهة تمويل الإرهاب هل انتهى عصر الجنّات الضريبية والملاذات الآمنة؟

7 نيسان 2016

لم يكن الكشف عن وثائق بناما قبل أيام بريئا من حيث توقيته أو حجمه، لتقتصر قراءة خلفياته على جهد صحافي قام به وتحمل مسؤوليته الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين. ذلك أن الكشف عن 11 مليون وثيقة تورط 12 من قادة العالم وأكثر من 120 سياسيا ورجل أعمال وموظفا رسميا، لا يمكن ألا يكتسب دلالات بارزة تتناول حيثياته وخلفياته، وتطرح السؤال الأهم عمن يقف وراء أكبر عملية تسريب شهدها العالم، تستهدف في جزء منها عالم المال، فيما تستهدف في الجزء الآخر الجنات الضريبية التي طالما اعتبرت الملاذ الآمن لأصحاب المليارات والراغبين في غسل أموالهم أو التهرب من دفع ما يتوجب عليهم من ضرائب أسوة بشعوبهم وموظفيهم!

أيا تكن الجهة التي تقف وراء تسريب وثائق بناما، فهي فعلت ذلك في إطار أجندة سياسية واضحة المعالم، تضرب في استهدافاتها أكثر من عصفور بحجر واحد.

لا يُخفى على الوسط الدولي المتابع لفصول فضيحة بناما وجود قرار دولي بوضع حد للتفلت المالي والضريبي، خصوصا بعدما ساهم مثل هذا التفلت في ارتفاع نسبة الإرهاب الممول من عمليات تبييض تعتمد آليات التهرب.

ولا يخفى كذلك أن وراء القرار الدولي أصابع أميركية خفية. ففي حين لم يصدر أي معطى أو مؤشر يدلل على مثل هذا الأمر، فإن غياب الأسماء الأميركية عن لائحة المتورطين أثار الشبهات، وعزز هذا الانطباع الذي عكسته التغطيات الاعلامية الغربية للحدث، إذ بدا أن كل ما يتعلق بالاميركيين تم التعتيم عليه أو إشاحة النظر عنه، مقابل تسليط الضوء على حسابات قادة غربيين تقدمهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس وزراء أيسلندا ديفيد سيجموندور جونلوجسون الذي كان أولى ضحايا الوثائق المسربة.

يضاف الى ذلك ما نشره موقع “ويكيليكس” أمس على “تويتر”، وفيه أنّ الهجوم يستهدف روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة، ويتم تمويله من وكالة التنمية الدوليّة الأميركية “يو أس أيد”. وترى “ويكيليكس” أن العمل جيد إذا كان يرمي الى رصد الجريمة المنظمة والفساد، لكنّ حصوله على تمويل مباشر من الحكومة الأميركية لشنّ هجوم “أوراق بناما” على بوتين، يثير شكوكاً حول نزاهته”.

وبقطع النظر عن الأضرار التي خلفتها الوثائق المنشورة على الأسماء المتورطة، ومن يقف وراءها، فإن هذه الفضيحة التي هزت العالم، ستشكل مصدر قلق جديد وتحسب وترقب وحذر في كل التعاملات المالية العالمية في المستقبل.

فالفضيحة التي ضربت شركات “الأوف شور” في عقرها، زعزعت استقرار ما كان يُعرف بـ”الجنات الضريبية” التي شكلت الملاذات الآمنة لأثرياء العالم وقادته الهاربين من قوانينهم الضريبية، كما وضعت العالم بأسره تحت مجهر كشف المستور عندما يستدعي الأمر ذلك، أكان على مستوى الامن القومي أم المالي أم في إطار المواجهة الدولية الحاصلة في سياق مكافحة الإرهاب والتطرف. لا يغيب في هذه الحسابات ما كشفته الوثائق عن تورط أنظمة سياسية في المنطقة، أبرزها النظام السوري، ونقلت صحيفة “لوموند” الفرنسية أن “ثلاث شركات سورية تصنفها وزارة الخزانة الأميركية بأنها داعمة لأداة القمع السورية، لجأت إلى مكتب المحاماة البنامي موساك فونسيكا لإنشاء شركات وهمية في جزر السيشيل”. والشركات الثلاث كانت توفر الوقود للطائرات الحربية السورية المقاتلة. وهذا يقود إلى خلاصة مفادها أن التفلت من القيود أو العقوبات لن يعود نزهة، كما أن تغني بعض الانظمة بثروات طائلة يمكن اللجوء إليها لحماية نفسها وضمان استمرارها، لم يعد سهلا أو متاحاً.

وهذا يعني أيضا أن القرار الدولي عموما والأميركي تحديداً جدي جدا في أنه لم يعد مسموحا لأي شخص مهما علا شأنه أو سلطته، بأن يتحايل على القوانين المالية والضريبية الدولية، كما أنه لم يعد مسموحا لأي بلد بأن يمارس ترف “الجنة الضريبية”.

وتجربة بناما التي لن تنتهي فصولها عند هذا الحد، شكلت وستشكل درساً للجميع بأن لا ملاذات آمنة بعد اليوم، وأن أي بلد لم يعد قادرا على ادعاء حماية الأموال والحسابات لديه.

وليس بعيدا مما حصل في بناما، يمكن التوقف عند قانون العقوبات الاميركي الاخير في حق “حزب الله” الذي دخل حيز التنفيذ هذا الشهر، والذي يؤكد العزم الاميركي على التضييق على كل تمويل مرتبط بتنظيمات مصنفة إرهابية أو متطرفة.

من هنا يمكن اختصار الأهداف البعيدة المدى لعملية بناما بالآتي:

– استهداف شركات “الأوف شور” التي تتيح أنظمتها التهرب الضريبي، من أجل وضع حد لهذه العمليات.

– لجم عمليات غسل الاموال، وكل ما يتعلق بتمويل الإرهاب.

– تضييق هوامش التحرك على حركة انتقال الرساميل وتحديد وجهات استعمالها.

والخلاصة أن الغرب ومصارفه وحتى دول المنطقة، لم يعد لها ملاذ آمن للأموال المهربة، وأن الاميركيين جادون في محاصرة منابع تمويل الإرهاب وتجفيفها.