بات من الضروري لمصلحة أمن دول العالم إنعقاد مؤتمر دولي في رحاب المقر الأوروبي لمنظمة الأمم المتحدة جنيف تشارك فيه الدول الأعضاء في المنظمة الدولية والمرجع الديني في كل دولة. أما لماذا المقر الأوروبي للأمم المتحدة فلأن جنيف تتوسط القارة الأميركية والقارة الآسيوية – الأفريقية وهذا يعطيها صفة المدينة التي تحتضن الجميع ومن دون أن تمارس ضغوطاً عليهم. وهذا المؤتمر كان مطلوباً قبل الواقعة الباريسية المبغوضة بجانبيها: جانب عدم المسؤولية وبُعد النظر في تناول منبر إعلامي لرمز يمثل ما يقارب الملياري نسمة موزعة على القارات الخمس، وهو في أي حال تناوُل سيء النية ولا يندرج ضمن الإبداع الفكري أو الفني وثمة أوجُه شبه بينه وبين الفعل المبغوض السابق المتمثل بكتاب «آيات شيطانية» تناول كاتبه المسكون بعقدة التهميش أمراً من الطبيعي استقباله بكل الغضب. أما الجانب الآخر بالنسبة إلى الواقعة الباريسية المبغوضة فإنها تلك المتمثلة بالقتل العمْد والإنتقام في أبشع صوره من مجموعة إعلاميين رماهم القاتلان برصاصات أودت بحياتهم وبذلك تنطبق عليهما كما على الذين إستهدفهم الفعل المبغوض عبارة «القاتل والقتيل في النار». القتيل لأنه تسبب في جريمة والقاتل لأنه إرتكب جريمة.
ونحن عندما نعتبر الذي رسمه الرسامون وشارك في بلورة الفكرة إعلاميون في المجلة الفرنسية الساخرة بأنه فِعْل مبغوض وينطلق من سوء نية، فلأن ما بعد الواقعة المبغوضة كان ينم عن سوء نية من الجانبين. الجانب الذي ينتمي إليه القاتلان وهو هنا تنظيم (داعش) الذي تبنَّى العملية وهلل لها وهو تهليل غير مستغرَب أصلاً من جماعة تبيح نحر رقاب البشر وتعبئ التائهين من أفراد مسلمين في أقطار الأمتين العربية والإسلامية وكذلك من تائهين في دول أوروبية يعيشون محنة الهوية والتداعيات الموروثة عن زمن أمعن بعض الأوروبيين إحتلالاً وإذلالاً لدول الأجداد والآباء من لبنان إلى سوريا إلى فلسطين إلى الأردن إلى العراق إلى اليمن والديار الحجازية وإمارات الخليج التي تستعيد مجبرة لا مستحِبَّة الموسم الجديد للوجود العسكري الأجنبي فيها إلى مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.. ومنها إلى دول في القارة الآسيوية لم يترك الأجنبي فيها بعد رحيله أو ترحيله سوى إهتزازات في الشخصية وأوطان لا تنمية فيها ومن أجل ذلك جاء هؤلاء كما العرب بالألوف إلى الديار الأوروبية على أساس أن لهم في ذمة هذه الدول ما يجعلها تحتضن وجودهم فيها وتُعاملهم وكأنهم من سكان هذه الدول وهذا أقل تعويض عمّا جرى في زمن الإحتلالات. ولو أن هذه الدول عرفت كيف تستوعب هذه الأجيال على النحو الذي لا يقوى تنظيم مسكون بالجاهلية والفتاوى المضلِّلة على تجنيدهم، لما كان هذا الخوف المستشري الآن من الوافدين العرب والمسلمين الذين هم وعلى نحو ما فعل إعلاميو ورسامو المجلة الفرنسية الساخرة تصرَّفوا على أساس أن حرية الرأي تعطيهم شرعية تجنيد شبان وشابات وعن طريق إبتكارات وتقنيات أنتجها العقل الغربي لتكون وسيلة التقريب بين العقول والأشخاص فإذا بها تتحوّل إلى ما يشبه القنابل الموقوتة، ووسائل لإصطياد أفراد تائهين على نحو ما أشرنا في سطور سابقة وتحويلهم من بشر عاديين إلى قتلة.
هذا بالنسبة إلى الداعشيين الذين هم في تهليلهم للواقعة المبغوضة التي أنهت حياة بضعة رسامين وإعلاميين شركاء في الإساءة إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى نحو ما فعلتْه المجلة الساخرة التي بدل أن تجنح نحو موقف مسؤول ويتسم بالوعي وقراءة ما حدث والآثار التي ترتبت عليه فإنها أطلقت في عدد ما بعد الواقعة المبغوضة رصاصات في صيغة رسوم تُسيء إلى الرسول وفي ظن الفاعلين أن هذا التحدي يبرئ الجرح الذي ينزف وأن المسيرة المليونية تشكّل ما يشبه الطلب إلى المجلة من أجل أن تواصل التحدي، مع أن الفاعلين لو قرأوا على سبيل المثال ما بين سطور كلمات الرئيس فرنسوا هولاند وكلمات المستشارة الألمانية ميركل لكانوا فعلوا ما هو أفضل من الذي فعلوه وكانوا سيرون أن المليون نسخة التي طبعوها من عدد التحدي هو مثل تلك الطبعات المتكررة من كتاب سليمان رشدي. وفي الحالتين الفعل المسيء واحد والمفاعيل في نهاية الأمر تستهدف علاقات فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي مع دول الأمتيْن العربية والإسلامية.
الذي من شأنه إصلاح الأحوال هو المؤتمر الذي بدأنا مقالتنا هذه بالإشارة إليه. مؤتمر لرموز القرار السياسي – الديني على مستوى العالم ينتهي بقرار يوضح بأن حرية الرأي تنتهي عند التسبب في إلحاق الأذى بالوطن،وما دون ذلك فهو مباح.
وقد يجوز القول إن ذلك يستوجب إعادة النظر في مبدأ حرية التعبير ونوعاً من المواثيق كتلك التي وُضعت بعد حروب. وهذا يُؤكّد الوجوب. فبسبب ما أفرزته الحروب كانت تلك المواثيق.
وبات الإلتزام بها يُشكّل حصانة ومناعة لمن يلتزمون بالمواثيق هذه. وحيث أن ما حصل في باريس ربطاً بالتداعيات الناشئة عنه وحجم الإحتقان في الصدور فضلاً عن الخشية من أن تتحوّل عواصم العالم وبالذات العواصم التي للعرب والمسلمين على سياساتها الكم المتراكم من العتب والحقوق المسلوبة والثارات، فإن المؤتمر الدولي السياسي – الديني كفيل بإستباق نُذر الخطر الذي نراه يقترب ونريده أن يبتعد عن حياة دول العالم من القطب إلى القطب ولا ضير على الإطلاق في تعديل مفاهيم وإعادة النظر في تقاليد من بينها حرية الرأي والتعبير. ألم يتم تعديل دساتير وإستبدال عبارات في مواد دستورية من أجل درء الخطر عن الأوطان؟
ومَن يعش ير أي حرائق تنشأ عن أفعال مبغوضة كتلك التي حدثت إذا كانت دول العالم لن تبادر وتسارع.