IMLebanon

الكرسي.. الكرسي.. الكرسي!

 

تستطيع بعض القوى السياسية اللبنانية، انطلاقاً من فائض القوة الذي بنته بسواعد سواها ووصلت من خلاله إلى أعلى المراتب في الجمهورية، أن تحرّف الأرقام والمؤشرات في الكهرباء وغيرها من الملفات، أن تعيد تعريف مفهوم الميثاقية، أن تشوّه ممارسة “الديموقراطية التوافقية”، أن تعطل المؤسّسات الدستوريّة، أن تتدخل في عمل القضاء لإلباس تهمة سياسية ثوب القضاء؛ لكنها لا تستطيع أن تجعل الخيانة وجهة نظر.

 

من حسنات اتفاق الطائف الذي تفاخر الأطراف ذاتها أنها تعدله بـ”الممارسة”، أي أنها عملياً تخرق الدستور (وهي المؤتمنة على السهر على تنفيذ أحكامه) أن حسم عروبة لبنان (وهو، للتذكير أحدى الدول المؤسسة لجامعة الدولة العربية سنة 1945)، لم يعد ذا وجه عربي كما اصطلح على تسميته في حقبة الميثاق الوطني (1943)، إرضاءً للتوازنات الداخلية والخارجية آنذاك.

 

وهذا الخيار الاستراتيجي يعني أن الاحتلال الإسرائيلي هو عدو للبنان وقد عانى هذا البلد منه ما عاناه، منذ تحطيم طائرات “الميدل إيست” سنة 1968 في مطار بيروت الدولي، إلى اجتياح 1978 ثم غزو 1982 وعدوان 1993 و1996 و2006، ناهيك عن الانتهاكات اليومية للسيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً.

 

ليس المطلوب الآن التعمق في نقاش الاشكاليات الجوهرية التي اعترت مفهوم “العروبة”، لا سيما بعدما دجنتها الأنظمة الديكتاتورية والقمعية العربية ذاتها، فالزمن لم يعد أساساً زمن نقاش إيديولوجي وعقائدي (ولو أن لهذا التمرين النظري فوائده الدائمة في مختلف المنعطفات).

 

إلا أن استحالة الخوض في هذا النقاش الفكري بالنظر إلى الظروف التاريخية والسياسية والموضوعية والعملية، لا يلغي ثابتة قائمة لا تتغير وهي عداوة إسرائيل وأنها كيان مغتصب، صادر فلسطين بقوة الإرهاب واعتدى على الدول العربية المحيطة واحتل أراضيها ولا يزال يرفض أي حلول سلمية تعيق مشروعه التوسعي الإستيطاني.

 

مناسبة هذا الكلام ليست بطبيعة الحال إستعادة مسببات الصراع العربي – الإسرائيلي ومآلاته المخزية والانهزامية على مختلف الجبهات، بل لإعادة التذكير بمسلمات يظن البعض أن بإمكانه التلاعب بها وإعادة صياغتها وفق مصالحه الخاصة والفئوية… وآخرها قضية العميل عامر الفاخوري.

 

بمعزل عمّا ستؤول إليه هذه القضية المعقدة من النواحي القانونية والقضائية، وبصرف النظر عما خطط من خلفها كصفقات (رئاسية أم غير رئاسية ربما)، لا يمكن الانتقاص من الخيانة والعمالة التي مارسها بجدارة هذا الرجل، وهذه ليست وجهة نظر!

 

ثمة تيارات لها تجربة سابقة في الترحيب بالعملاء وحملهم على الأكف ونثر الأرز عليهم واستقبالهم في مراكز القيادة، فايز كرم النموذج الأسطع في هذا المجال، تتكرر التجربة مع الفاخوري (ولو كانت من دون الطقوس الإحتفالية الوقحة، أقله حتى اللحظة!).

 

في كلا الحالتين، الإرتكاز النظري والتبرير المعنوي والسياسي يستند إلى تصريح خطير أدلى به في يوم من الأيام وزير خارجية لبنان السابق، الذي أقر “بحق إسرائيل بالوجود بحرية وسلام” نافياً أي صراع إيديولوجي أو عقائدي معها. نعم، هكذا، بكل بساطة، وبكلماتٍ قليلة نسف الوزير مسارات تاريخية طويلة عمدت بدماء شهداء من مختلف الإتجاهات (ومن بينها طبعاً دماء حلفاء الوزير في مقاومة إسرائيل).

 

الوصول إلى الكرسي الرئاسي يستحق الإستباحة بالكثير من المرتكزات والثوابت الوطنية والاستراتيجية: التلاعب بخفة بالتوازنات التاريخية، إستحضار الخطاب الفئوي والطائفي لتوسيع القاعدة الشعبية في شارع معين، خرق الدستور عبر تعطيل تعيينات مستحقة تحت حجة التوازن المذهبي (وغضّ الطرف عن القاعدة ذاتها في إدارات أخرى عندما تكون النتائج معاكسة)، ملامسة العنصرية في المواقف ضد النازحين واللاجئين. وفوق كل ذلك تغطية تبرئة العملاء والفارين من وجه العدالة وصولاً إلى حالات فردية تتصل بقضايا المخدرات وسواها.

 

الكرسي.. الكرسي.. الكرسي. يا لها من كرسي! لعل ميكيافيللي يتقلب في قبره في هذه الأثناء!