كان حديث الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله كفيلاً بمضاعفة علامات الإستفهام حول قرار كف التعقبات بحق العميل عامر الفاخوري الصادر عن المحكمة العسكرية. إذ اكتفى نصرالله بسرد عناوين طفيفة من رواية طويلة، لا تكفي إلى الإستدلال على الجهة التي شجّعت رئيس المحكمة العسكرية العميد حسين عبدالله على إصدار قراره. لا أحد يحمّل الأخير مسؤولية القرار وحده، الكلّ يبحث عمن يقف خلفه. كلّ اللبنانيين، باختلاف انتماءاتهم السياسية يطالبون بمعرفة ما حصل، وإن كان لكل منهم هدفه من السؤال. أما الذين تلقوا العذاب على يدي هذا العميل، فيريدون أن يحددوا من هو هذا “الطرف الخفي” في الدولة الذي لا تعنيه عذاباتهم ولا تضحياتهم؟ الإجابة ليست سهلة، وكلّ مفصل منها يفتح الباب على عشرات الأسئلة، لكن لا بأس من المحاولة.
الضغوط الأميركية
منذ عودة العميل الفاخوري إلى لبنان بدأت الضغوط الأميركية على المسؤولين. احتلت القضية صدارة متابعات السفيرة الاميركية السابقة وخليفتها، وخلال زيارة وكيل وزارة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية دايفيد هيل الى لبنان، نبّه من لائحة عقوبات يمكن أن تطاول كل من له يد بتوقيف الفاخوري ويرفض إطلاق سراحه، مع التلويح بوقف المساعدات الاميركية للجيش اللبناني. كان موقف رئيس الجمهورية واضحاً: الملف قضائي بحت. ولدى زيارته وزير الخارجية جبران باسيل، طالب هيل بالإفراج عن الفاخوري وهدد بعقوبات، فكان أول ردّ فعل لباسيل صارح بشأنه المحيطين به: “علينا نقل هذا الجو الى “حزب الله” بوصفه المعني الاول ويجب ان نرى ما سيحصل ونقول له اننا مهددون بعقوبات”. وبناء عليه، اجتمع باسيل مع “حزب الله” شارحاً تفاصيل الوضع بدقته والتداعيات المتوقعة قائلاً: “هذا ما سيحصل والقرار لكم وانتم اولياء الدم”.
لم تقف الامور عند هذا الحد، تلقى عدد من الوزراء في الحكومة السابقة من الدفاع الى الخارجية والعدل رسائل لم تخل من تهديد صريح وواضح، وتلقت السفارة اللبنانية في اميركا اجواء مماثلة بهذا الخصوص. وفي احدى المرات اتصلت محامية من فريق الدفاع عن الفاخوري في اميركا بوزير الدفاع الياس بو صعب تحذره صراحة: “هل تدرون ماذا تفعلون بهذه القضية وما هي تبعات ما يحصل؟”، وقالت: “اذا لم تفعلوا شيئا سنلاحقكم”، ليكون جوابه: “لا صفة لكِ للتحدث مع وزير في الحكومة بهذا الشأن وعليك مخاطبة وزارة الخارجية”.
استمرت المطالبة الاميركية بإطلاق سراح الفاخوري، وفي كل مرة كان يتم تأجيل جلسة رد الدفوع الشكلية في المحكمة العسكرية. في هذا الوقت “تدهورت اوضاع الفاخوري الصحية”، وتم نقله من المستشفى العسكري الى سيدة لبنان لحراجة وضعه، حتى صار يشكل عبئاً من الناحية القانونية وتوسعت رقعة الراغبين بإعادة النظر بالملف ككل.
ولكن رغم هذا الجو كان مستبعداً عقد جلسة لـ”العسكرية” تتعلق بالفاخوري. وتلقى “حزب الله”، كما أكد أمينه العام، وعوداً بذلك، لا سيما في الفترة الاخيرة بسبب الإجراءات الوقائية من انتشار فيروس “كورونا”. في المقابل، ومنذ بدأت القضية تتفاعل، كان العميد عبدالله يجزم بأنه لن يقدم على خطوة تطلق سراح الفاخوري، وقبل الجلسة بأسبوع ردّد على مسامع من حوله في المحكمة العسكرية انه لن يأخذ قراراً من هذا النوع. فما الذي دفعه لتعديل موقفه؟
كفّ التعقبات
عند موعد انعقاد الجلسة الاثنين الماضي حضر أعضاء هيئة المحكمة من الضباط. كان أغلب الظن انهم، وكالمعتاد، جاؤوا لرد الدفوع الشكلية كما سبق وحصل خلال الجلسات الماضية، لتكون المفاجأة انهم قرروا قبولها بالشكل. ينقل مطلعون على اجواء وزارة الدفاع ان العميد عبدالله وقبل دقائق من صدور القرار اتصل بوزيرة الدفاع يبلغها “كي لا تتفاجئي، هناك قرار بشأن كف التعقبات عن الفاخوري سيصدر بعد قليل”، وما كادت تنهي المكالمة معه حتى وصل خبر عاجل بهذا الشأن عبر وسائل الإعلام.
في تحليل المطلعين ان اللجنة حضرت وبحوزتها “التعليمة” بما عليها فعله، بدليل تقريب العميد عبدالله موعد قرار رد الدفوع الشكلية وهو ما لم يكن مضطراً لفعله. كان بامكانه اتخاذ قراره في تاريخ اليوم المحدد خصوصاً وان النقاش القانوني بشأن القضية كان لا يزال مستمراً: هل يحتسب مرور الزمن منذ تاريخ التحرير، او منذ دخل العميل الاراضي المحتلة، أو منذ اختفى؟
المفاجأة الثانية هي اتخاذ قرار بإطلاق السراح الذي اتخذته المحكمة العسكرية، في حين جرت العادة بألا يطلق سراح أي موقوف في حال كان يحقق معه أمام محكمة ثانية، كما هي حال الفاخوري المفترض أنه ملاحق بدعاوى شخصية رفعت عليه من أسرى محررين. فهل كانت المحكمة العسكرية غافلة عن هذا الأمر؟
أسئلة بالجملة
مجدداً، يطرح السؤال، من أعطى التعليمة للعميد عبدالله باتخاذ هذا القرار؟ ففي قناعة المعنيين ان هناك تدخلات وأوامر أعطيت. وبما أن كلام نصرالله كان واضحاً بأن لا “حزب الله” ولا “حركة أمل” غطيا هذا القرار، فمن يكون هذا الطرف: “التيار الوطني الحر”؟ قيادة الجيش كما يشاع بحكم قرب العميد منها أم هو قرار سياسي صدر بإجماع أكثر من جهة معنية بالأمر؟
طبعاً يصعب أن تطلب السفارة تعليمات مباشرة يمكن ان تلتزم بها هيئة التحقيق ورئيسها، أما الجيش المتهم بتسهيل ادخال الفاخوري الى لبنان فحظي بالحصة الاكبر من الاتهامات، وان حاول البعض ردها بالقول انه ليس من مصلحته الخوض في هذه القضية بما انه المتهم الاول، وأكدت المصادر أن قائد الجيش، عند استشارته في الأمر، فضل البقاء على الحياد وعدم الدخول كطرف من بعيد او قريب، ايا كان الحكم على الفاخوري.
أما الاحتمال الثالث، فيستدلّ اليه محللون من “الأسى” الذي ظهر في لهجة الامين العام لـ”حزب الله” وفي نبرة صوته. بالاضافة الى ما ورد في بيان كتلة “الوفاء للمقاومة” المطالب باستقالة كامل أعضاء المحكمة العسكرية، تضاف الى ذلك ايضاً المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق قضائية ونيابية، وليس عسكرية، لكشف ملابسات “الحادث الخطير”، لتكون هذه سابقة: أن تتولى لجنة برلمانية التحقيق مع عسكريين. كل هذا بهدف معرفة الإجابة على سؤال يتهرّب الجميع منه: من تكون الجهة أو الجهات التي “حمّست” العبدالله على “تطبيق القانون” بما لا يتناسب وملابسات القضية؟
الطوافة العسكرية
لكن الرواية لن تنتهي هنا، وعقد المتورطين قد يطول إذا وصلنا إلى السؤال التالي: كيف خرج الفاخوري من المستشفى الى عوكر ثم الى الخارج على متن طوافة عسكرية؟ هذه أيضاً قصة كبيرة وتطاول سيادة لبنان.
كشف نصرالله انه كان قد تقرر ارسال طائرة لنقل الفاخوري من مطار بيروت، لكن حصل اعتراض شديد على الأمر وكان هناك اتجاه لتوقيفه من جديد. وتقول المعلومات إن الجهات المعنية في مطار بيروت أبلغت عن وصول طائرة طبية مجهزة بغرفة عناية قبل موعد الجلسة بيوم واحد، ثم ألغي التبليغ برسالة ذكرت ان الطائرة (التي كان يفترض أن تقلّ الفاخوري) لن تصل وقد تم تغيير الاتجاه الى آخر لم يحدد مساره. هكذا اتخذ القرار بنقل الفاخوري عبر طوافة عسكرية، من السفارة الاميركية في عوكر الى الخارج، على ان يتولى موكب أمني نقله من المستشفى الى مقر السفارة. والسؤال هنا هل كان ثمة قرار أو إذن للطائرة بنقله جوّاً فوق الاجواء اللبنانية، ومن أصدره ومتى؟
في السابق كان طلب التحليق يقدّم إلى وزير الدفاع ليرفعه الى مجلس الوزراء ليعطي الاذن، وهذا ما يحصل مع الطائرات التابعة لليونيفيل وبواخر السلاح، فهل حصلت هذه الطوافة على إذن أم لا؟ وفي حال نعم، من الذي اصدره في هذا التوقيت المريب؟ وهل صحيح ان الطائرة التي أقلت الفاخوري هي ذاتها تلك المخصصة لنقل بريد اسبوعي من والى السفارة؟ وهل تكون هذه عادة مجهزة لنقل مريض يفترض ان حالته خطرة؟
أسئلة كثيرة، تكتّم عن المعلومات، واتهامات تطاول الكثير من المشككين الصادقين. فهل يفرج المعنيون عن الحقيقة الكاملة ويتحمّل كلّ طرف مسؤوليته؟