«لديك قوّتان نوويتان تنظران في أعين بعضهما شزراً، ويمكن أيَّ شيءٍ أن يحصل»، رئيس وزراء باكستان عمران خان لـ«نيويورك تايمز».
في رواية أميركية عن نهاية العالم، يطرح الكاتب ماكس بروكس نظريّة بأنّ الحرب النووية «التي نتوقعها»، ليست الحرب النووية التي ستحصل، بل ستسقط القنبلة الأولى في ميدان لا ننتظره، واستخدم مثال الهند وباكستان. الفكرة هي أنّ الدّول التي تعيش في حالة «توتّر نووي» (كأميركا والاتحاد السوفياتي أو باكستان والهند) تبني على مدى السنوات عدداً كبيراً من الإجراءات والبروتوكولات وقنوات التواصل التي تهدف تحديداً إلى منع الحرب «المنتظرة» ولجم الأيدي عن زرّ الإطلاق حين يبدأ التصعيد. أمّا لو نشب نزاعٌ فجائيّ، لا توجد «بنية» لإدارته، بين بلدين يملكان القنبلة، فهنا قد يتصاعد الموقف بسرعةٍ إلى احتمال الحرب.
في الرّواية الخياليّة، تقع الحرب النووية، لكنها تجري بين باكستان وإيران، وليس باكستان والهند. وهي إجمالاً روايةٌ سيّئة، نتج منها فيلمٌ أسوأ من بطولة براد بيت («الحرب العالمية زي»، وقد سمعت بأنّه يجري تصوير جزء ثانٍ منه). والكاتب مخطئ في زعمه، فالحرب النووية لا تحصل حين «تسقط الموانع» والمؤسسات التي «تحرسنا» منها وتقينا، بل هي ستحصل ببساطة حين تصبح (وإن من وجهة نظر لاعبٍ هامشي) خياراً «عقلانياً». المشكلة أنّ السياق الذي تحصل فيه الحرب النووية، وحساباته ونتائجه، مرعبةٌ الى درجةٍ تمنعنا من التفكير فيها كاحتمالٍ واقعي. من الأسهل أن نستكين إلى فكرة أن المحرقة التي شهدناها في هيروشيما لن تتكرّر، فقط لأنها أفظع من أن تتكرّر، حتّى وإن كانت قوانين التاريخ وشواهده تقول العكس (بالمناسبة، فإنّ السلاح الذي استخدم في هيروشيما وناغازاكي يُعدّ سلاحاً «تكتيكياً»، صغيراً، بمقاييس اليوم؛ تضربه على هدفٍ بحجم مطارٍ أو قاعدة).
في العلوم السياسية الأميركيّة، كانت الحرب النووية من المجالات «العمليّة» التي جرى فيها تطبيق نظرية الخيار العقلاني، وبناء نماذج حسابية للجيش والقيادة، هدفها تحليل الوضعية التي أتت فيها، وماذا سيفعل الخصم، ومتى يصبح لزاماً عليك أن تعاجله بضربةٍ لأنّ «النموذج» يقول لك ذلك. هذا حتّى لا تعتقدوا بأنّ هناك عقلاً متعالياً سامياً يقف فوق الأحداث وموكّلٌ بمنع المحرقة، الحساب – كما رأينا خلال الحرب الباردة – عسكريُّ ونفعيّ. من هنا، مثلاً، أعلنت أميركا عن عقيدة «استخدام أوّل» للسلاح الذرّي؛ أي أنّ أي اجتياحٍ سوفياتي (بالمدرّعات والسلاح التقليدي) لأوروبا الغربيّة ستقابله أميركا مباشرة بضرباتٍ نوويّة؛ وذلك ببساطة لأنّ الحرب التقليدية الخاطفة لم تكن في مصلحتها. والحرب النوويّة لا تكون بالضرورة على هيئة سيناريو الدمار الشامل – ضربات واسعة ومدمّرة ضدّ المدن والمراكز السكنيّة – بل قد يلجأ البعض إلى استخدامٍ محدود للسلاح النووي، أقلّه في البداية، ويراهن على أن يتوقف التبادل النووي هنا أو يظلّ تحت هذا السقف. على سبيل المثال، كانت هناك خطّة سوفياتية تقوم على اجتياح أوروبا بالترافق مع ضرب جميع مطارات الـ«ناتو» في القارّة بأسلحة نووية تكتيكيّة. الرّهان السوفياتي كان أنّ الأوروبيين – بالحساب العقلاني – لن يرغبوا في تصعيد الحرب إلى السّلاح النووي الثقيل، وتحويل مدنهم إلى مسطّحات من زجاج، وقبل أن تنتهي المعمعة ستكون القوات السوفياتية قد دخلت باريس وولد واقع سياسي جديد.
الهدف هو أن نشرح أنّ استخدام السلاح النووي (بأشكالٍ ومستويات مختلفة) ليس أمراً مستحيلاً كما نتخيّل، بل هو احتمالٌ واقعي توضع له سيناريوهات وخطط. جلّ ما حصل منذ هيروشيما وناكازاكي، أنّه – لحسن الحظّ – لم تتصادم قوّتان تملكان هذا السّلاح بشكلٍ يجبر، أو يغري، إحداهما باللجوء إليه. من هنا أقول إنّ الترسانة النووية الإسرائيلية، خاصّة في انعدامٍ سلاحٍ عربيٍّ مكافئ، من الممكن جديّاً أن نراها تُستخدم ضدّنا في يومٍ من الأيّام، ومن الجهل أن نظلّ غافلين عن هذا الاحتمال. إسرائيل في النهاية بلدٌ صغير، مؤسسته السياسية وعملية صنع القرار فيه ليست صلبة وموثوقة، وتسود حكّامها، بتصاعد، نظرة عنصريّة استئصاليّة تجاه العرب. ما الذي سيمنعهم في المستقبل، توقياً من هزيمة عسكرية مثلاً، من التهديد بضرب مدننا أو ضربها بالفعل؟ إن أصبح الخيار عندهم هو بين خسارة كيانهم وزوال المؤسسة الصهيونية، وبين حياة مليون عربي، فأيّها برأيكم سيكون – من وجهة نظرهم – الخيار «العقلاني»؟
القيود ترتخي
أرسل اليّ حسن الخلف رسالةً منذ فترةٍ وهو محتجٌّ غاضب: «لا شيء يظهر النّفاق الغربي كالمقارنة بين حالتي هونغ كونغ وكشمير» (أحداث السنوات الأخيرة جعلت الخلف يتابع من كثب أخبار السياسة الدولية والاقتصاد والحرب التجارية بين أميركا والصين، بعد أن كان منكبّاً على إمارات العشائر في العراق والتاريخ السومري). بالفعل، في هونغ كونغ احترمت بيجينغ استقلالية المدينة ونظامها الذاتي واتفاق «بلد واحد بنظامين»؛ والمواطن الصّيني يحتاج إلى ما يشبه التأشيرة (يسمّونه «إذن سفر») لدخول هونغ كونغ. ومع ذلك كلّه، يدعم الإعلام الغربي بحماسةٍ ما يشبه «ثورةً» ضدّ الصين، بسبب قانونٍ ينظّم استرداد المجرمين – والقصة خلف القانون ليست سياسية ولا علاقة لها بالسيطرة، بل هي، حرفيّاً، أنّ مواطناً من هونغ كونغ قتل زوجته وهما في تايوان، ثمّ فرّ عائداً قبل أن تكتشف السلطات التايوانية الجريمة؛ ثم تبيّن أنه لا يمكن – في النظام القانوني الحالي – استرداده أو محاكمته. كلّ هذا وهونغ كونغ ليست إلّا مستعمرة سابقة، نالتها بريطانيا من الإمبراطور كـ«غنيمةٍ» بعد حرب الأفيون الثانية.
في المقابل، تنشر الهند – الديمقراطية – ما يقارب ربع مليون جنديّ لحراسة بضعة ملايين كشميري. وكشمير – تقنياً – أرضٌ ضمّتها الهند بالقوّة، ولم تدخل طوعاً إلى الجمهورية الهنديّة. هناك نظام احتلالٍ لا يزال قائماً إلى اليوم، وقد تبع إلغاء الهند – من طرفٍ واحد – «الوضع الخاص» للولاية أخيراً منعٌ شامل للتجوّل في أرجاء جامو وكشمير، وقمعٌ عنيفٌ لأي احتجاج، وحظرٌ على دخول الصحافيين للتغطية. لكنّ الإعلام الغربي يتبنّى «مظلومية» هونغ كونغ (سنعود إلى موضوع هونغ كونغ لاحقاً، ولكن لا أعتقد أن هناك ضرورة لأن أشرح أنّني لا أتعاطف كثيراً مع المتظاهرين في هونغ كونغ، ولا أستلطفهم وهم يلوّحون بعلم المستعمرة القديم أمام القنصلية البريطانية وينشدون السّلام الملكي، ولا أجد أنّ بناء عصبيّة «هونغ كونغية» تقوم على الضدّ من الصّين أمرٌ حكيم).
لكن الموضوع هنا، أنّ كشمير قد تكون بالفعل نقطة البداية لحربٍ بين قوّتين نوويّتين، في جوّ إيديولوجي مشحون إقليمياً وعالمياً، وقد يصل الأمر إلى نهايات مأسوية. خلال الأزمة الأخيرة، أُزيل أحد الموانع «النفسيّة» ضدّ الحرب النووية في شبه القارّة الهنديّة. ما حصل، أنّ الهند قد أصدرت ما يشبه التراجع عن سياسة تاريخيّة معلنة منذ امتلاكها العلني للسلاح الذريّ، وهي سياسة «لا استخدام أوّل». القصّة باختصار، أنّ الهند قد تعهّدت، منذ أواخر التسعينيات، بأنّ سلاحها النووي دفاعيّ محض، وأنها لن تكون السباقة في اللجوء إليه («استخدام أوّل») مهما كانت الظروف. في منتصف الشهر الماضي، أعلن وزير الدفاع الهندي راجنات سينغ، موقفاً في خطابٍ فسّره المراقبون بأنّه تراجعٌ عن هذه العقيدة. بحسب تحليلٍ طويل للموقف الهندي الجديد (لخبيرين هما كريستوفر كلاري وفيبين نارانغ في «هندوستان تايمز»)، فإنّ وزير الدّفاع قد تملّص، أو بتعبيرهم «نزع القدسيّة»، عن الالتزام الهندي بعدم استخدام السلاح النووي أوّلاً في نزاع (قال الوزير إنّ الهند قد التزمت بالكامل عقيدة «لا استخدام أول» حتّى الآن، ولكن «ما يجري في المستقبل يعتمد على الظروف»).
الالتزام ذاته ليس ذا قيمةٍ كبيرةٍ، يقول الخبراء، فهو معنويّ ودبلوماسيّ لا أكثر، وتشهره عادة الدول التي تدخل حديثاً إلى النادي النووي لإظهار «النية الحسنة» للمجتمع الدولي. في الواقع، لا أحد سيستنكف عن استخدام السلاح النووي في وجه خطرٍ داهمٍ حين تحين السّاعة، أو حين يفترض أنّ هذا هو الخيار الوحيد (أو الأقل كلفة) أمامه. الصّين هي الدولة الأخرى التي تلتزم مبدأ «لا استخدام أوّل»، وهناك منطقٌ معروف في رفض الهند «تقييد» نفسها بهذا الالتزام، ولماذا عملت أخيراً على تعزيز ترسانتها النووية، وعيارات القنابل، ووسائل إيصالها، كأنها تستعد فعليّاً لحرب. الحجّة هنا، أنّ الالتزام المسبق بعدم القيام بالضربة الأولى يجعل باكستان تعتقد أنّ الهند لن تشنّ عليها حرباً تقليديّةً واسعة، مهما فعلت إسلام آباد، ولو نقلت مقاتلين إلى كشمير ودعمت الحرب القائمة هناك ضدّ الجيش الهندي، خوفاً من ردّ فعلٍ «نوويّ» وأن تتلقى الهند الضربة الأولى. هنا تقول المؤسسة العسكرية الهندية بوضوح إنّها لن تخشى خوض غمار الحرب ضدّ باكستان، ولو شعرت بأن إسلام آباد على وشك اللجوء إلى السلاح النووي، فهي لن تسمح لها بتوجيه الضربة الأولى.
تاريخ واحتمالات
إن كنتم تتساءلون كيف يمكن الاحتمال الأسوأ أن يجري على أرض الواقع، فقد قرأت «سيناريو» لصحافي هندي (يزعم أنه نقله عن مسؤولين هنود رفيعي المستوى) يصلح – في الحقيقة – لأن يكون فصلاً أولاً في كتابٍ (واقعي) عن الحرب النووية. السيناريو يقول بأن قرار الحكومة الهندية بإلغاء الوضع الخاص لكشمير كان مقصوداً لاستفزاز باكستان، وبأمل أن تشعل إسلام آباد جبهة كشمير، وتستقدم مقاتلين وجهاديّين، والهدف من ذلك أن تحصل الهند على «حجّة» تشنّ بعدها حرباً تقليدية كبيرة على باكستان، والهدف احتلال الجزء الغربي، الباكستاني، من كشمير مهما كان الثمن. التبرير، هو أن حكومة نيودلهي تراقب المحادثات بين أميركا والطالبان في أفغانستان، وتفهم أنها تعني أن الحكومة الحالية (الصديقة للهند) ستختفي من كابول ويحلّ مكانها الطالبان. وحين يستريح الطالبان في حكم أفغانستان، أو تخرج أميركا حتّى، فإنّ دفق المقاتلين إلى كشمير لن ينتهي ولن تستريح الهند هناك. الأفضل إذاً، بحسب هذا السيناريو، أن تبادر الهند إلى احتلال القسم الباكستاني من كشمير والإمساك بالحدود هناك مع أفغانستان، قبل أن تصير معبراً لمن يريد القتال في كشمير.
الهند تضع يدها على الجزء الأهمّ من كشمير، وفيه المدن الرئيسية (جامو وسريناغار)، لكن الجزء الباكستاني الجبليّ يتّصل في آخره بأفغانستان. هذا الشطر من كشمير الذي يقع تحت سيطرة باكستان ليست له قيمة معنويّة فحسب، بل هو أيضاً نقطة الوصل الوحيدة بين باكستان والصّين؛ فلو غزته الهند وضمّته بأكمله تصبح باكستان معزولة بالكامل من الشمال والشّرق، ويُقطَع «المعبر الاقتصادي» الذي يُبنى بين البلدين، وتغدو أكثر المشاريع العملاقة لوصل الصين بباكستان وعقد شراكة استراتيجية بينهما في حكم الملغاة. هذا السيناريو هو على الأرجح أقرب إلى التهويل، ويهدف إلى تخويف باكستان من القيام بردّ فعلٍ في ولاية جامو وكشمير، ولكنّه مثالٌ على الاحتماليات التي لا يمكن استبعادها، خاصّة إن غذّتها طموحات سياسيين متطرّفين، التي قد تحدث صراعاتٍ تخرج عن عقالها وتوصل إلى مكانٍ مريع.
المفارقة أنّه منذ عشرين سنة مثلاً، كنت سأنحاز في نزاعٍ بين البلدين إلى الهند، مستهدياً بفكرة أنّ حدث التقسيم عام 1947 كان النكبة الحقيقيّة، وأنّ البلدين يجب أن يكونا جزءاً من فضاءٍ هنديّ رحب، كما كان الحال لفتراتٍ طويلة في التاريخ؛ ولا معنى لإقامة دولةٍ «مسلمة» تنازع هنداً «هندوسية»، وتبني بينهما الجدران والنزاعات والكراهية. ولكن ماذا تفعل حين تتغيّر الأحوال، ولا تعود الهند كما كانت، وتصبح أمام «هند مودي» اليوم، تجتاحها القومية الهندوسية والتطرّفات، وتتصاعد هويّة تقوم على تجريم التراث الإسلامي في الهند؟ في النّهاية، لا يوجد «قدرٌ» محتّم أو مسارٌ إجباريّ لأيّ بلدٍ أو شعب (ونحن العرب، الذين تكلمنا طويلاً عن «الحتميات التاريخية» والوحدات التي يجب أن تحصل لأنها «ضرورية»، نعرف ذلك جيّداً). الصورة الرومانسية عن قارة هندية تتواصل أجزاؤها بوئامٍ ويثري بعضها بعضاً، من حدود الصين شرقاً إلى حدود أفغانستان غرباً، وتعترف بطبقاتها التاريخية والثقافية، هندوسية وإسلامية وغيرها، هي مجرّد احتمال. والاحتمال الذي يتشكّل اليوم هو لقارّةٍ مقسّمة بين بلد هندوسي متطرّف يعادي الإسلام، ويتماهى مع أميركا وإسرائيل، وبلد مسلم يبحث عن هويّة. الطّريف – المحزن، أنّ البلدين يستخدمان التاريخ والهوية حتى في تسمية سلاحهم، وللتفاخر والاستفزاز. فباكستان تطلق على صواريخها أسماء مثل «بابور» (مؤسّس السلالة المغولية التي فتحت الهند وحكمتها) و«غزنوي» (نسبة إلى اسم السلالة)، فيما الهند تعطي صواريخها أسماء آلهة وأبطال هندوس مثل «أغني» و«أندرا» و«ميترا».
هنا فرصة لهامش تاريخي طويل (لا علاقة له، صراحة، بموضوعنا ولكن قد لا تتاح لي فرصة أخرى لروايته): هل تعرفون أنّ هناك نظريّة جديّة تفيد بأنّ القائد العسكري الإيراني نادر شاه، وغزوه لدلهي في القرن الثامن عشر، كان من العوامل التي سهّلت سقوط الحكم المغولي، والهند تالياً، في يد الاستعمار البريطاني؟ نادر شاه شخصيّة فريدة، يعدّ من عباقرة الحرب التاريخيين (ذكره نابليون وكلاوسفتز، مثلاً)، لكنّ قلة تتذكره اليوم، لأن حكمه انتهى مع موته وتقسّمت إيران من بعده، فلم يخلّف دولة موحّدة أو إمبراطوريّة تخلّده في التاريخ.
ظهر نادر شاه في مرحلة القلاقل الكبرى بين سقوط السلالة الصفوية في إيران عام 1722 وصعود القاجار، وهي كانت فترة حروبٍ واحتلالات وكوارث، لم ترَ بلاد فارس لها مثيلاً منذ الغزو المغولي الأوّل. وسط تلك الفوضى صعد نادر خان (الذي أصبح نادر شاه) واستعاد كلّ أراضي إيران الإمبراطورية، من القوقاز إلى خراسان، في سلسلة حروبٍ صاعقة. بنى «دولةً عسكرية» وحوّل الجيش الإمبراطوري التقليدي (الذي يتكوّن من أقوامٍ وقبائل ووحداتٍ متنوّعة تلبّي نداء الشاه وقت الحرب) إلى ماكينة فعّالة: أعطى قادة القبائل رتباً، نظّمهم مع رجالهم في كتائب تعرف مكانها في تشكيل الجيش، وأجبرهم على التدرّب دوريّاً وفق جداول (والدّولة تلتزم تسليح الفارس وتعويضه عن جواده حين يُقتل وهذه كانت، تاريخياً، مسألة أساسيّة في تقرير «شجاعة» الفارس ومدى استعداده على للإقدام: من سيدفع ثمن الحصان؟).
كان جيش نادر شاه، تحت قيادته، يتفوّق نوعيّاً على أي منافس حوله، فغزا خراسان بأكملها وصولاً إلى نهر سيحون، الامتداد الأقصى للإمبراطورية الفارسية في عزّ أيامها، ثمّ غزا أفغانستان العصيّة، وبعدها اقتحم منطقة باكستان والهند، وصولاً إلى دلهي التي دخلها عام 1738. اشترى الشاه المغولي، محمّد شاه، عرشه بأن فتح خزائنه أمام نادر شاه، الذي عاد من الهند بغنائم هائلة، من بينها «عرش الطاووس» الشهير، وألماسة ضخمة (اسمها «جبل النور») هي اليوم ترصّع التاج الملكي البريطاني. مع أنّ نجم نادر شاه قد أفل مباشرةً بعد موته، إلّا أن حملته الشرقيّة قد تكون – عن غير قصده – غيّرت تاريخ الهند إلى الأبد: فتحطيم الآلة المغولية العسكرية ونهب خزانة الشاه قد مهّدا الطريق أمام اختراقٍ بريطانيّ سهلٍ للملكة المترنّحة، بعدها بأقل من عقدين.
خاتمة: لماذا نحتاج إلى القنبلة؟
لديّ اعتقادٌ بأنّ أهمّ الأسباب التي جعلت القوى الغربية «تتسامح» مع السلاح النووي في الهند وباكستان، معرفتها بأنّ هذه الترسانة، إن استخدمت، فهي ستسلّط على أهل شبه القارّة الهنديّة (أو، في أبعد الحالات، في صراعٍ ضدّ الصين)، ولن تشكّل خطراً على الدول الغربية وحلفائها. هذا هو السّبب ذاته الذي يجعل السلاح النووي الإسرائيلي سرّاً شائعاً في الدوائر العالمية، ولا أحد يحتجّ عليه أو يكترث به كخطرٍ فعليّ، إذ إنّ الضحايا المفترضين لهذه القنبلة هم حصراً من العرب (أو، في أبعد الحالات، من جيرانهم المسلمين).
الرئيس التركي لمّح أخيراً إلى أنّ بلاده قد تسعى إلى الحصول على السلاح النووي، مع أنّه يحظى نظرياً بتغطية من مظلّة الـ«ناتو»، لأنّ الاتّجاه الذي يذهب إليه العالم لا يطمئن، ومعاهدات الحرب الباردة وأعرافها يجري تمزيقها، و«المحرّمات» تتغيّر ويعاد تعريفها؛ والعالم تجتاحه إيديولوجيات تسهّل فكرة الحرب الوجودية والقتل الجماعي. أنت لا تعرف متى ستخرج هويّة أو أدلوجة تعتبرك «غازياً» أو «كافراً» أو «متخلّفاً»، جرثومةً لا قيمة لحياته؛ وحين يحصل ذلك، أنت لا تريد أن تكون الأعزل الوحيد بين أقرانك. المفارقة أنّ العرب، في وجود الترسانة الإسرائيليّة وحكومتها العنصريّة، قد يكونون من أكثر الشعوب تعرّضاً لخطر القتل النووي، وأكثر من يحقّ له التسلّح للردع، وهم – في وضعهم الحالي – أبعد من يكون عن هذه الأفكار.