IMLebanon

أميركا كما ليست في الأفلام

 

 

الساعات الطويلة بين ظهر الثلاثاء ومساء السبت الماضيين، كانت المناسبة الأكثر ملاءمة للتعرّف على جانب خاص من الحياة الأميركية على حقيقتها. الحديث، هنا، ليس عن فيلم هوليوودي جيّد أو رديء يروي لنا واقع شعب يواجه أزمة ليست عابرة، بل عن صورة شديدة الواقعية، لم تقدر الشاشات على تزوير أي مشهد فيها، وفشلت في تجاهل التفاصيل القاسية التي أخرجتها أدوات التواصل المفتوحة بين أيدي الناس الى الفضاء العام. ربما كانت أميركا، هذه المرة، على موعد مع اختبار كاشف للكذب، وهي لم تكن مدرّبة كفاية على تجاوزه.

 

ربما مثّل دونالد ترامب صورة قاسية وحقيقية عن قسم يمثّل، على الأقل، نصف الأميركيين. قسم يريد متابعة حياته خارج قواعد اللعبة التقليدية. قسم ليس مفعماً بالخير والحب بالضرورة، لكنه صريح ووقح الى حدّ أنه لا يكذب، ومصلحته المباشرة تتقدم على كل شيء. وهي مصلحة قسم من سكان الأرض، ممن يعتقدون أنهم الأخيار والأفضل، وأنهم الأكثر استحقاقاً لترؤس المائدة، وما على الآخرين إلا خدمتهم بسرور، وأن يشكروا عليّة القوم بأن سمحوا لهم في الوجود ولو على شكل خادم. هكذا تصرّف ترامب منذ اللحظة الأولى لانطلاق السباق الانتخابي. قال كل ما يفكر فيه هذا القسم الذي يريد للعالم أن يقبل به كما هو: قاس وفجّ ومتعالٍ ومتغطرس ومتطلّب وقاهر متى تطلّب الأمر!

القسم الآخر من الشعب الأميركي الذي خرج ليبعد ترامب عن الحكم لم يكن لديه جدول أعمال مثير للإعجاب. لم يكن هذا القسم، بقواعده كما بقيادته، سوى آلة رد فعل متوترة على ما يبادر إليه القسم الآخر. والاستنفار الذي شاهدناه لدى خصوم الرئيس الأميركي الأكثر إثارة للجدل، مثّل لحظة الخشية القصوى من انكشاف حقيقة أميركا، التي لا يقوم تفوّقها إلا على قهر آخرين. وهو تفوّق يسمح لأقلية فيها بأن تتحكم بكل شيء داخلها وخارجها أيضاً. حتى إن كل المهاجرين الجدد (في العقود الخمسة الأخيرة) هالهم كيف يخاطبهم ترامب وأنصاره. هم عاشوا التفرقة والتمييز والقهر والاضطهاد، لكنهم كانوا يصمتون لأن القهر في بلادهم الأولى كان أقسى. لكن مشكلة هؤلاء في كونهم صدّقوا أن خصوم ترامب من السياسيين والاقتصاديين والأمنيين والإعلاميين، يريدون لهم مستقبلاً أفضل. مشكلة هؤلاء الذين حملوا جو بايدن الى الرئاسة أنهم تصرفوا مثل النخب الأميركية، أي برد فعل على ما قام به ترامب. فتجنّبوا البحث في أسباب أزمتهم الحقيقية، وارتضوا قواعد اللعبة إياها. صاروا يعملون وفق منطق المرّ والأمرّ منه. حتى إنهم لم ينجحوا في ابتزاز خصوم ترامب، ولم يحصلوا منهم سوى على وعود سبق أن سمعوها حتى قبل مجيئهم الى هذه البلاد. وهم تصرفوا بدونية مقززة، كأنهم يثبتون حجة ترامب بأنهم ليسوا مواطنين كاملي المواصفات، بل مواطنون من الدرجة الثانية لا يحق لهم تقرير مصير أميركا. وهؤلاء سلّموا بقواعد لعبة قذرة لن ينتج منها إلا مزيد من القهر قبل أن يعود ترامب آخر، بعد أربع سنوات أو أكثر لا يهمّ.

أميركا الحقيقية هي تلك التي ظهرت على شاشات البث المباشر. لا مجال لمؤثرات تخرج رامبو من بين الأنقاض. ولا مجال لكتاب يقدم لنا حواراً خيالياً لا يتناسب مع الخلافات العميقة حول الهوية الأميركية. ولا مجال فيه لفريق تجميل يقدر على إخفاء الأجسام المترهّلة والوجوه المنهكة، ولا مجال لموسيقى تناسب الحلم الأميركي بينما كان العالم كله ينصت الى صراخ وسباب وشتائم.

 

الخطير محاولة منح بايدن وجماعته مشروعية تتيح له القيام بكل الأمور القذرة التي كان شريكاً فيها منذ ستة عقود

 

 

أميركا الحقيقية أقرب الى صورة دونالد ترامب. إنها صورة رجل العصابات الذي يفترض أن له الحق في فعل ما يناسبه ولو على حساب الآخرين. صحيح أن ترامب، أو آخرين مثله، لن يتمكنوا من فرض إرادتهم على بقية الأميركيين أو على العالم. لكن الصحيح، أيضاً، أن الآخرين لم يظهروا أي برنامج بديل يغري هؤلاء المجانين بفكرة مختلفة. وما إن يتاح لترامب نفسه أو لمقلّدين له العودة الى الساحة بالخطاب نفسه، سنكتشف مرة جديدة حقيقة الحلم الأميركي.

الخطير، هنا، ليس اختصار ما حصل بهزيمة ترامب. الخطير محاولة منح بايدن وجماعته مشروعية تتيح له القيام بكل الأمور القذرة، التي سبق أن كان شريكاً فيها منذ ستة عقود، بحجة أنه البديل الأنسب عن جنون الفريق الآخر. الخطير أن الأميركيين الذين لم يجهدوا في خلق بديل من كل هذه النخبة، ومعهم كل من كره ترامب في العالم، سيتيحون لهذا العجوز المملّ أن يفعل بأميركا والعالم ما هو أسوأ. غداً، سنجد الإعلام الأميركي الذي استفاق فجأة على مهنية واحترافية بعدما هزم خصمه الأول، يمجّد كل ما يقوم به بايدن فقط لأنه يخالف ما كان يقوله ترامب. لكن لن نجد في هذه الماكينة الإعلامية ولا في المنتديات من يدقق في حقيقة ما سيقوم به الرئيس الجديد.

في بلادنا، سيلقى بايدن التحية إن خفف العقوبات عن إيران، أو قلّص الخلافات مع الصين وروسيا، أو فرض وقف حرب اليمن، أو كان أقل حرارة مع قادة إسرائيل والسعودية ومصر. وسيخرج من بيننا من يرى في ذلك مكرمة إلهيّة. وسيصلّي شاكراً الرجل الأبيض بنسخته المنمّقة. سننسى أن المشكلة تقع أساساً في كل ما قام به ترامب وأسلافه من رفاق بايدن. ولن نطالب أحداً من هؤلاء بالاعتذار عن جرائم لا تزال قائمة في كل زاوية من هذا الكوكب. وكل ذلك، فقط، لأن الرجل المجنون أبعد عن غرفة القيادة.

أفضل ما عشناه في أسبوع الآلام الأميركي هو أن أميركا لم تكن لتظهر لنا على حقيقتها في وقت آخر. وأفضل ما نفعله الآن هو إبقاء أعيننا ترى بوضوح مسار أميركا المقبل. حتى ولو تجاهل الحمقى أزماتها البنيوية الآخذة في التجذّر. وأن نكون مدركين لحقيقة ما ينتظرنا، ولا تصيبنا الدهشة إن استفقنا من هذا الحلم الأميركي، ثم وجدنا أنفسنا في قلب الجحيم بعينه… وهو جحيم لن يكون أكثر بشاعة من صورة أميركا الحقيقية، وليست كما تقدّم لنا في الأفلام!