ليس سرّاً أنّ جزءاً أساسياً من رهان قوى الاعتراض في لبنان هو مقدار الدعم الذي يلتزم به المجتمع الدولي تجاهها، ولا سيما منه الولايات المتحدة وفرنسا والخليج العربي. فمن دون أوهام، وفي ظلّ الانقسامات الطائفية والمذهبية، أظهرت التجارب أنّ إجبار منظومة السلطة على التنحّي وفتح باب التغيير، هو أمر صعب التحقّق، من دون دعم خارجي حقيقي وفاعل. ولكن، هل الرهان على الدعم الدولي في محلّه، خصوصاً بعدما قدَّم الأميركيون نموذجاً مثيراً للقلق في أفغانستان، حيث تُرِك البلد لقمةً سائغة لـ»طالبان»؟
تحرص الإدارة الأميركية على إظهار مسألة الانسحاب من أفغانستان وكأنّها خطوة تكتيكية ستحقّق المكاسب لاحقاً، لأنّها ستوقع خصوم واشنطن هناك، أي الروس والصينيين والإيرانيين، في مآزق مختلفة، وستؤدي إلى نشوء تباينات في ما بينهم، على أسس عرقية أو دينية، أو لمصالح سياسية أو اقتصادية.
أياً يكن الأمر، فالانسحاب من أفغانستان يترجم رأياً واسعاً داخل الإدارة الأميركية، يتبنّى نظرية «الحدِّ من دفع الأكلاف» من خلال التورط في البؤر عبر العالم، وهو موجود في الحزبين الديموقراطي والجمهوري على حدّ سواء.
وعلى مدى العقدين الماضيين، تكبَّد الأميركيون أكثر من 2.26 تريليون دولار في أفغانستان، وسقط لهم ولحلفائهم نحو 8 آلاف من الجنود وعناصر الأمن، فيما كان خصومهم الدوليون، ولا سيما منهم الروس والصينيون، يوسِّعون استثماراتهم بهدوء في آسيا وإفريقيا، وفي أوروبا أيضاً، بتوسُّع نفوذهم السياسي والاقتصادي.
واستطراداً، نظرية «الحدّ من الأكلاف» هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى تنفيذ خطوات سابقة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، حتى في زمن الجمهوري دونالد ترامب. فعلى أساسها جرى الانسحاب من العراق أيضاً، ومن سوريا. وإلى حدٍّ ما، توحي إدارة الرئيس جو بايدن بأنّها أقلُّ التزاماً مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، أي الإسرائيليين والخليجيين العرب.
أصحاب هذه النظرية يعتقدون أنّ رغبة الولايات المتحدة في «قيادة العالم»، منذ انتهاء الحرب الباردة، أوقعها في خطأ الحسابات، وهي تحاول تصحيحه. ولكن، في المقابل، ثمة مَن يسأل: هذه الانسحابات التي ينفِّذها الأميركيون اليوم، وبالطريقة التي تتمّ فيها، هل ستوقف خسائرهم أم ستكبِّدهم خسائر أخرى غير محسوبة؟
عدد من الخبراء يعتقدون أنّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان سيقود إلى خلق فراغٍ تستفيد منه الصين وروسيا. وكذلك، سيخلق انسحابهم من العراق وسوريا، و»تقنين» دعمهم للحلفاء في الخليج العربي، فرصةً لتوسُّع الصين وروسيا، إضافة إلى ثلاث قوى إقليمية صاعدة: إسرائيل وإيران وتركيا. ويذكِّر هؤلاء، بأنّ الاتجاه الأميركي إلى الانسحاب من الشرق الأوسط هو الذي تسبَّب في:
1 – سيطرة نظام الرئيس بشّار الأسد على غالبية سوريا، وبناء قاعدة روسية قوية هناك.
2 – حتى الآن، هزيمة الحلفاء الأكراد الموعودين بأن يكون لهم الحق في تقرير المصير، في سوريا والعراق.
3 – تعملُق الدور الإيراني نووياً وتسلحاً ونفوذاً في العراق وسوريا ولبنان والخليج العربي وغزة والبحر الأحمر، في انتظار ظهور الملامح الجديدة للنزاع بين إيران والولايات المتحدة في نهاية مفاوضات فيينا.
4 – تعملُق الدور التركي في البلقان وليبيا ومياه المتوسط.
5- يوازِن الإسرائيليون في علاقاتهم بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. ففي موازاة علاقاتهم الاستراتيجية الثابتة مع واشنطن، هم يحتاطون للمستقبل باتفاقات تعاون قيمتها عشرات مليارات الدولارات مع الصين، كما أنّهم يتوِّجون علاقاتهم الوطيدة مع موسكو باتفاقاتٍ تحدِّد أطر التعاون في سوريا وحولها.
ad
في واشنطن، هناك تأكيد على أنّلا نية إطلاقاً للانسحاب النهائي من مناطق النفوذ في آسيا والخليج العربي والشرق الأوسط عموماً. ويقول المطلعون إنّ المسألة تتعلق بالحدِّ من «التورُّط» لا أكثر، وإنّ واشنطن لن تنسحب من أي مكان في العالم، قبل أن تحجز لنفسها هناك موقعاً يضمن لها الاحتفاظ بالنفوذ، أياً يكن الوضع القائم.
خطورة هذا الكلام تكمن في الاستنتاج الآتي: إذا كان الأميركيون قد ضمنوا مصالحهم في أفغانستان، وعلى هذا الأساس اتخذوا قرارهم بالانسحاب، فهذا يعني أنّ الانسحاب تمّ ضمن تفاهم مباشر أو غير مباشر مع «طالبان» نفسها. وقد تكون الحركة من جهتها قدَّمت تعهدات وتنازلات معينة للأميركيين لضمان هذه الخطوة، وستظهر مفاعيلها لاحقاً.
وهذا الأمر يثير هواجس كثيرين في الشرق الأوسط من تكرار السيناريو لمصلحة إيران. وليس سرّاً أن غالبية خصوم إيران لم يطمئنوا حتى الآن إلى المآل الذي يمكن أن تنتهي إليه مفاوضات بايدن مع إيران، وإلى مقدار «صموده» في هذا الملف، وما إذا كان سيعتمد النموذج الأفغاني في النهاية.
وهذا النموذج يعني تحديداً «التعب» فجأة، والانقلاب على الحلفاء تحت شعار «الحدّ من الأكلاف»، وإبرام الصفقات «تحت الطاولة» مع الخصوم.