بعد بطولات العشرية الأولى من الألفية الجديدة، صارت أميركا لاعباً في مقاعد المعطّلين. كانت هذه مَهمة المشاغبين، من القوى الصغيرة المعترضة في العالم، لكن، اليوم، أميركا لم تعد قادرة على صنع وقائع كبرى، بل باتت تلعب دور المعطّل والمعرقل والمخرّب لا أكثر ولا أقل: أعطوني حصتي أو أهدم السقف عليكم؛ أغيثوا جماعتي نيابةً عني أو تحل اللعنة عليكم؛ اتركوني أرحل بهدوء، واحفظوا مصالحي من بعدي، أو لا أغادر إلا بعد التأكّد من أن نصيبكم هو الخراب فقط.
عندنا، نفد صبر الأميركيين. لا يطيق الرجل الأبيض عدم استجابة العبيد لمطالبه، فكيف سيطيق تمرّدهم عليه؟ وإذا كان في المشرق العربي من يعتقد أنه قادر على هزيمة أميركا وطرد جماعاتها وإضعاف الأنظمة الحليفة لها، فإن العمّ سام يقول له: لا أزال أمسك بشرايين حياتكم، طالما أن الاقتصاد العالمي يخضع لشروطي، وطالما أن الدولار هو عملة التداول.
في لبنان، الحسبة بسيطة جداً. فبعد فشل مشروع الإمساك بلبنان من قبل قوى حليفة لأميركا، وفشل الحرب الإسرائيلية عام 2006، وفشل الحرب على سوريا، وتغيّر الوضع في العراق، وعدم سقوط النظام في إيران، واستعادة المقاومة زمام المبادرة في غزة، تقول لنا أميركا بأنها مستعدّة لقلب الطاولة. وهي باشرت خطوات كثيرة من حولنا. أما عندنا، فهي تخاطبنا بالدم والدموع وتقول لنا: إما الوصاية المباشرة أو الانهيار!
لم تعد أميركا تثق بأي وعد من قبل الناس في لبنان، لا سعد الحريري ولا 14 آذار ولا كل آكلي الكبّة النية والتبّولة والعرق. هي تريد التأكّد بنفسها من إدارة الأمور، وفي كل الجوانب. ومن تريدهم في الحكم مجرد أدوات يخضعون لإشراف مباشر منها، وبواسطة المؤسسات الدولية الخاضعة لسلطتها. وجدول أعمالها يشمل كل شيء، وفق برنامج قيل بعضه لمن يهمه الأمر، وقيل بصورة أوضح للآخرين، وفيه:
في السياسة الخارجية:
تريد واشنطن أن يكون حياد لبنان عن المحاور الإقليمية انسلاخاً تاماً عن محور المقاومة. لا تريد أي شكل من أشكال التنسيق مع سوريا أو العراق خارج الإطار المناسب لها. وكل الملفات العالقة، من النازحين إلى العلاقات التجارية أو ملفات الحدود، يجب أن تكون خارج البحث إلا متى قررت واشنطن ذلك. وبالتالي، فإن أي حكومة يجب أن تعتبر نفسها غير معنيّة بهذا الملف، ومن الأفضل عدم توزير أي جهة متورّطة في هذا النقاش.
في السياسة الدفاعية:
يباشر لبنان إجراءات عملية لضمان عدم وجود أي جهوزية قتالية مع إسرائيل. ويجري توسيع صلاحيات الجيش اللبناني بعيداً عن السلطة السياسية، ومدّه بالغطاء الكافي للقيام بكل الأنشطة التي تضمن تقييد سلاح المقاومة بصورة عامة، ووضع اليد على القوة الصاروخية للمقاومة، والقيام بكل الإجراءات الكفيلة بمنع المقاومة من أي نشاط إضافي على صعيد تعزيز القوة والردع جنوباً.
وفي هذا السياق، على لبنان القبول، من دون نقاش، بتعديلات جوهرية على عمل وصلاحيات القوات الدولية العاملة في الجنوب، والاستعداد لتوسيع دائرة عملها وانتشارها لتشمل كل حدود لبنان الجنوبية والشرقية والشمالية والبحرية أيضاً. ويكون لها حق المبادرة بالتنسيق مع الجيش اللبناني لا تحت إشرافه.
أميركا تريد حكومة بصلاحيات واسعة خالية من تدخّل القوى السياسية ويشمل برنامجها السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد والإدارة العامّة
ملف النفط والغاز:
يوافق لبنان على تفويض الحكومة الأميركية بإدارة ملف النزاع مع إسرائيل حول المنطقة الاقتصادية، على أن تتولى شركات أميركية أعمال التنقيب واستخراج النفط والغاز في هذه المنطقة، ويترك لها إدارة الحصة المتنازع عليها، وهي من يتولى توزيع الأرباح على الطرفين. ويجري الأخذ بالتوصيات الأميركية الكفيلة بضمان المباشرة بعمليات التنقيب والاستخراج، بما في ذلك شكل ترسيم كامل الحدود الجنوبية، البحرية منها والبرية.
أكثر من ذلك، فإن الولايات المتحدة التي تريد «الاستماع إلى أصوات الشعب» ستتولى هي مَهمة الإشراف على الأموال الناتجة عن النفط، وتحديد آلية ووجهة إنفاقها، مع التشديد على ضرورة التزام لبنان سداد ديونه كافة، ولا سيما الخارجية منها.
الاقتصاد والمال:
تعتبر أميركا أن لبنان فشل في كل التجارب، ومن الضروري إيكال المَهمة كاملة إلى صندوق النقد الدولي الذي ينتقل إلى ممارسة الوصاية الكاملة على الملفات الاقتصادية والمالية والنقدية، وفق رؤية تقوم على توسيع أعمال الخصخصة، بقصد جلب استثمارات داخلية وخارجية، وبالتالي بيع كل ما تبقّى من القطاع العام، ثم تحرير النقد الوطني من كل دعم، وجعل سعر الليرة أسير سوق العرض والطلب، واعتماد السياسات التي تقلّص الإنفاق العام، من خلال تقليص حجم القطاع العام عموماً، وإلغاء كل أشكال الدعم الاجتماعي والاستثماري الذي تقول أميركا إنه باب للسرقة والهدر.
الإدارة العامّة للدولة:
تعتبر أميركا أن لبنان فقد أهليته لإدارة أموره بنفسه، وبالتالي، فإن منطق الوصاية يسمح باختيار الفريق المفترَض به تولي المسؤوليات العامة في كل مرافق ومؤسسات الدولة، وستكون «لائحة فضلو خوري» جاهزة غبّ الطلب لملء المراكز وأي شواغر، ومعها لوائح أخرى تعدّها مجموعات منتسبة إلى الحراك القائم، بما في ذلك ترشيحات أتت هذه المرة من مموّلين لمنظمات غير حكومية. وعلى قول أحد دبلوماسيي شمال أوروبا، فإن المموّلين لديهم خبرة بمن هو الأكثر كفاءة والأكثر أمانة أيضاً. وسيتم فرض نظام إداري جديد في البلاد يخضع لسلطة الحكومة خارج سلطات الرقابة التي «تُعيق الرشاقة في الإنتاج الإداري».
الصلاحيات والقرار:
بحسبما تريد أميركا، فإن الحكومة الجديدة يجب أن تتمتع بصلاحيات خاصة حتى تتمكّن من وضع يدها على كل مرافق الدولة، وحتى تتمكّن من إعداد وتنفيذ البرامج المستعجلة لمعالجة المشكلات الاقتصادية والمالية، وهذا يعني ضرورة أن يتخلى مجلس النواب عن قسم كبير من صلاحياته التشريعية لهذه الحكومة، كما يُفترض برئيس الجمهورية أن يحترم دستور الطائف الذي يجعل القرار قائماً في مجلس الوزراء فقط. وبحسب «الموال» المذكور، فإن الحكومة «ستستجيب لتطلعات الشعب» الذي لا يريد أياً من أركان الطبقة السياسية الحالية، وبالتالي، لا يمكن للقوى السياسية أن تمارس أي رقابة من خلال المؤسسات أو حتى من خلال الشارع.
هذه هي حكومة العمّ سام التي يرشّح نواف سلام لرئاستها!