يوماً بعد يوم، تتكشّف خيوط اللعبة في لبنان. غابت التظاهرات، في ما عدا الروتين اليومي لقطع بضعة طرقات لبعض الوقت، وبات البلد معلقاً على كباش داخلي بامتدادات خارجية.
ثمة سؤال يطرحه كثيرون في يومياتهم: أين ذهب الحراك؟
السؤال هو دوماً في محله: إذا كان رفع رسم «الواتساب» الشهير قد أشعل الأرض بهتافات «الشعب يريد إسقاط النظام» و«كلن يعني كلن»، فما الذي يفسّر هذه الاستكانة في الشارع بعدما حلّق الدولار الأميركي في سوقه السوداء، وقبلها السوق الموازية، إلى حد لم يعد معه المواطن قادراً على شراء أقل احتياجات أسرته الضرورية؟
هكذا يتضح مجدداً أنّ الشارع – سوى نذر قليل منه – باتَ تَحرّكُه محكوماً بأجندات اللعبة السياسية، التي يفترض أنّ اللبنانيين قد خرجوا إلى ساحات الغضب الشعبي ضدها، أو هكذا اعتقد البعض.
لعلّ استكانة الشارع هذه، وفق الفرضية السابقة التي تقترب من اليقين، تَشي بأنّ ثمة تحوّلاً ما، بناءً على قرار اتخذ خلف الأبواب المغلقة في عواصم الخارج، لكبح فرامل الانهيار في لبنان، ولو إلى حين، وفرملة حركية سقوط البلد وإبقائه معلقاً في الهواء، بانتظار متغيرات عابرة للحدود اللبنانية، وتندرج بشكل أساسي في إطار المواجهة الأميركية – الايرانية، المفتوحة بدورها على كل السيناريوهات، سواء في ما تبقى من أشهر الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، أو إلى ما بعد الثلاثاء الانتخابي الكبير في الولايات المتحدة.
كل ما سبق يفتح الباب على سلسلة مترابطة من التساؤلات، التي تبدأ في البحث عن سر ارتفاع الدولار الاميركي في السوق السوداء، وكذلك سر تراجع سعر صرف الدولار الأميركي في رغم أن لا تغيير حدث في السياسة النقدية والمالية، في ما عدا تعاميم المصرف المركزي، التي تقترب من أن تكون علاجاً بالمسكنات للمرض العضال الاقتصادي، ولا تنتهي عند التفاؤل المصطنع عند حسان دياب بشأن التفاوض مع صندوق النقد الدولي، رغم أنّ كل الإصلاحات المطلوبة لا تجد طريقاً إلى التنفيذ، إلّا في وعود فضفاضة.
ما سبق من تساؤلات ينسحب على الاستدارة المفاجئة في الموقف الأميركي، والتي تَبدّت في أكثر من زيارة وموقف خلال الأسبوع المنصرم، كان أهمها زيارة قائد المنطقة المركزية الوسطى لبيروت، وما رافقها من تشديد على «أهمية الحفاظ على أمن واستقرار لبنان وسيادته»، وإعادة التأكيد على «الشراكة القوية بين الولايات المتحدة والجيش اللبناني»، ناهيك عن اللقاء الذي جمع السفيرة الأميركية دوروثي شيا مع حسان دياب، والذي أعقبه ما يشبه الانفراجة في العلاقات الثنائية، لا سيما بعد أزمة قرار القاضي محمد مازح، بجانب الحديث عن استثناءات لبنانية في «قانون قيصر»، بعد أيام قليلة على أقوى التهديدات الأميركية المتضمنة تهديدات صريحة بفرض عقوبات على شخصيات لبنانية متصلة بـ«حزب الله».
في الواقع، لا يمكن فهم الموقف الأميركي إلّا في سياق التهدئة البراغماتية، وهي ليست نهجاً جديداً، في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، سواء تعلّق الأمر بالملف اللبناني او بالملفات التي تتصدر قائمة اولويات الإدارات الأميركية في العالم.
ثمّة تفسيرات عدة لهذا التحول. البعض يجادل بأنّ تغيير اللهجة الأميركية هو محاولة لتبريد الاحباط اللبناني من الرهان على الغرب، والذي تَبدّى في الحديث عن الانفتاح شرقاً، باتجاه الصين وايران، والبحث عن قنوات للتبادل التجاري مع العراق. لكنّ الأمر ليس بهذه السذاجة، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة قادرة بأدوات كثيرة على عرقلة هذه التوجهات، إن أرادت، أو في أفضل الأحوال، فإنها تدرك بأنّ الانفتاح شرقاً خطوة غير كافية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني المتهاوي.
لعل التفسير الأقرب إلى المنطق، هو أنّ تغيير اللهجة الأميركية ينطلق من رغبة في كبح الانهيار، بانتظار التحولات المقبلة في المشهد الاقليمي، لا سيما أنّ الانهيار الكامل، بكل تبعاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، قد يكون قفزة غير محسوبة في الهواء بالنسبة إلى السياسة الأميركية، آخذاً في الحسبان أنّ الواقع اللبناني في حالة الانهيار، سيكون مفتوحاً أمام سيناريوهات قد لا تصبّ في مصلحة الاميركيين أنفسهم، إن لجهة تقويض حلفاء الولايات المتحدة في لبنان، أو لجهة تشريع الأبواب امام تدخلات اقليمية غير متوقعة في الشأن اللبناني.
ضمن هذا المعادلة، يمكن فهم التهدئة المستجدة في لبنان انطلاقاً من تلاقي براغماتية الأميركيين مع براغماتية «حزب الله» التي تَبدّت في الخطاب الأخير للسيد حسن نصر الله، والذي كان واضحاً في حرصه على «التوازن» بين انفتاح لبنان شرقاً وتَلقّي الدعم الأميركي رغم حالة العداء مع الولايات المتحدة، وهو ما تُرجم على الأرض في تحركات مدروسة تصبّ في الخانة البراغماتية نفسها، وقد تَبدّت في التظاهرة ضد زيارة ماكنزي على طريق المطار، والتظاهرة الرافضة للسياسات الأميركية قرب السفارة الأميركية في عوكر، والتي لم يعكّر صفوها سوى محاولات معتادة لاختراق السياج الحديدي، وبعض الهتافات التي أثارت حنقاً مؤقتاً في الشارع المسيحي.
برغم ما سبق، يبقى من المبكر الجزم بآفاق الوضع اللبناني، طالما أن لا اختراق واضحاً في جدار الأزمة الاقتصادية، وهو ما كشفت عنه الزيارة الأخيرة للواء عباس ابراهيم إلى الكويت، وما تردّد بعدها من أنّ الكويت، وهي أكثر الدول الخليجية مرونة تجاه لبنان، غير مستعدة في الوقت الحالي لضَخ دولارات في القطاع المصرفي اللبناني، في وقت لا تزال السعودية، برغم حركية سفيرها، ومعها الامارات مُحجمتين بقرار سياسي على تقديم المساعدة للبنان، وذلك ضمن الحسابات السياسية التي باتت معروفة للجميع.
كل ذلك، يجعل لبنان معلقاً في الهواء، بانتظار ما ستؤول إليه التطورات المقبلة، والواقع يَشي بأنّ ثمة رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه لبضعة أشهر، ضمن مقاربة تزاوج بين لعبة «من يصرخ أولاً»، وبين ترقّب تحولات المشهد الاقليمي – الدولي، والذي يقتصر تعامل لبنان فيه على محاولة كسب الوقت.
ثمة فرضية أخرى، تجعل التهدئة المصطنعة حالياً مقدمة لتصعيد أكثر خطورة يتمحور اليوم حول عنوانين رئيسيين: المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تستعد لإصدار حكمها النهائي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ والتفويض الأممي لقوات اليونيفيل، التي ستسعى واشنطن، كعادتها، إلى جَعله مادة للضغط السياسي على لبنان، لا سيما أنّ الأزمة الحالية التي تشهدها البلاد تسمح إلى حد كبير بجعل الضغوط الأميركية أكثر تأثيراً.
وفي وقت يبدو فيه الأفق اللبناني معلقاً على إرادات الخارج، إلّا أنّ الانفجار قد يحدث في مكان آخر، فالأوضاع المعيشية في البلاد، وما بات يخرج منها من حكايات مأساوية، ليس أقلها حالات الانتحار، هي في الواقع القنبلة الموقوتة، التي يتجاهل الكل خطورتها، في ما عدا مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه التي حذرت قبل أيام من أنّ الوضع في لبنان «يخرج بسرعة عن السيطرة».