IMLebanon

أميركا والاندفاعة السعودية

تعيد الاندفاعة الديبلوماسية السعودية في المنطقة رسم ملامح نظام إقليمي جديد، على قاعدة استعادة التوازن الذي فقده العالم العربي، منذ انهارت مناعته، خصوصاً نتيجة تداعيات الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وانقضاض إيران للهيمنة على عواصم كانت دائماً نقاط ارتكاز لتعزيز تلك المناعة.

والمفارقة قياساً إلى الأميركي الذي كان شريكاً في أمن المنطقة، أنه يعاني في عهد الرئيس باراك أوباما نحولاً في الذاكرة، وفيما يترك العرب «ليقلعوا أشواكهم بأيديهم»، قبل الاتفاق النووي مع إيران وبعده، لا يتوانى عن إعطاء «النصائح»، ولا يتردد في البحث عن تمويل خليجي للعجز المالي العراقي!

هوة ضخمة بين الواقعية السعودية التي تجسّدها خصوصاً زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز مصر وتركيا، والتي تنقل التعاون العربي الإسلامي إلى مرحلة التعاضد بدل التطاحن، والفعل بدل الشعارات، وبين محاولة إدارة أوباما استدراك أخطائها، في نهاية عهده.

حين ودّع أوباما قادة دول الخليج بعد قمة كامب ديفيد (14-5- 2015)، كانت نصيحته «حاوروا إيران وافتحوا صفحة جديدة معها». كرر بالطبع التزام واشنطن أمن الخليج، وما حصل منذ نحو سنة، لا يشير إلى أي رغبة لدى طهران في وقف سياسة استعداء دول الجوار والاستعلاء عليها، وترك مصير سورية للسوريين والعراق للعراقيين، واليمن لليمنيين. وكل ذلك بالطبع يترافق مع «ديبلوماسية» التطاول والتهجُّم التي لم تعد حكراً على «الحرس الثوري» أو المتشدّدين ممن يظنون أن مصير المنطقة بيد إيران وحدها، ولسان الولي الفقيه… أو أنه في جيب الذين يشتمون أميركا ليلاً ونهاراً، لكنهم يزرعون خلايا التجسس والتخريب والتفجير في دول عربية إسلامية.

وإذا كان إرسال طهران وحدات «كوماندوس» إلى سورية لدعم نظامها، وللإمعان في تحريضه على مزيد من القتال والقتل، يكفي للدلالة على أن إيران ليست في وارد تبديل موقفها من جهود الأمم المتحدة، ومسار جنيف ومرحلة الحكم الانتقالي، فالمفاوضات اليمنية المرتقبة في الكويت ستكون اختباراً آخر لقدرة الحوثيين على النأي بأنفسهم عن التحريض الإيراني.

الوجه الآخر للمأزق مع «الشراكة» الأميركية الذي كرّسه «حذر» أوباما وقوته «الناعمة»، أنه لم يتفهم المخاوف الأمنية والعسكرية الخليجية من النهج الإيراني الذي يراه أهل المنطقة مدمِّراً، ولا يقل خطورة عن كل ما ارتكبه «داعش». المأزق أبعد بكثير من وعود التسليح الأميركية وفواتير التسلُّح في عصر هبوط عائدات النفط. المعضلة أن سنوات طويلة من العقوبات الدولية على إيران، لم تبدّل نزوعها إلى الضغط على الجيران وترهيبهم، بذريعة حرصها على أمن الخليج وإبعاد القوى الأجنبية عنه.

وحين يفكر الأميركي في مطالبة الخليجي بتقديم مساعدات للعراق، لكي يتخطى أزمته المالية، يتناسى كم أهدر ساسة بغداد، حلفاء طهران ورعاة «الحشد الشعبي» المتهم بالتنكيل بعراقيين من السنّة. بصرف النظر عن الهوية المذهبية لهؤلاء وللمحاصرين في الفلوجة، يطلب الأميركي عملياً دعماً مالياً خليجياً لتعويم المحاصصة بين المتهمين بتكريس الهيمنة الإيرانية على قرار بغداد!

إنه وجه واحد للتهويم الأميركي والانفصال عن الواقع الذي تكرّس منذ حرص أوباما على إعلان انسحاب الولايات المتحدة من أزمات المنطقة، محرّضاً إيران على ملء الفراغ. والأكيد أن الارتباك الأميركي- الإيراني بدأ بالتدخُّل الخليجي لحماية استقرار البحرين، وتكرَّس مع قيادة السعودية التحالف العربي لمنع سقوط اليمن في الفلك الإيراني.

أما ذروة الاندفاعة السياسية السعودية التي وضعت خلال زيارة الملك سلمان مصر وتركيا، آليات جديدة للشراكة مع البلدين الكبيرين، فتفتح صفحة لنظام إقليمي شعاره الواقعية، واحتواء الأخطار الهائلة للإرهاب… التكامل في السلم والحرب، وسد نوافذ التخريب بتحصين اقتصادات دول كبرى، وخلق فرص عمل تقي الشباب من رياح التطرُّف.

وإلى حماية أمن اجتماعي لدول لا يمكن أن ينفعه أي دعم من الخارج، واضح أن أبرز مقتضيات تلك الواقعية، هو جهوزية عسكرية وطنية، تكون بمثابة ردع لأطماع الخارج.

منذ العام 2011، سقطت المنطقة رهينة، بين شلالات دم وحدود تتأرجح على حرائق الخرائط، وحملات تهويل إيرانية، وغزل أميركي لطهران يكاد أن يعتبرها ضحية لـ «عداء» خليجي. لم يتعلّم أوباما بعد، أن كل عاصمة عربية توهّمت إيران دخولها دخول الفاتحين، ضيّعت استقرارها إن لم يكن هويتها.

الاندفاعة السعودية حرب ديبلوماسية واقعية لاستعادة التوازن الباهظ وتنقية القرار العربي من شوائب الاختراقات، وكوارث سياسة الابتزاز بالتهويل بالفتن.