ثمّة ملاحظات تستأهل التوقف عندها، وذلك على هامش اعتبار الولايات المتحدة «الحرس الثوري» الإيراني «منظمة أجنبية إرهابية». في مقدّم هذه الملاحظات أنّ الإدارة الأميركية قررت اعتماد مزيد من التصعيد مع إيران. يتماشى التصعيد مع ما يقوله المسؤولون الأميركيون، على رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو، لدى زيارتهم هذه العاصمة العربية أو تلك. فحوى كلام بومبيو في كلّ جولاته أن الولايات المتحدة في غاية الجدّية في محاولتها حمل النظام في إيران على تغيير سلوكه و»هذا القرار لا عودة عنه».
الملاحظة الأخرى أن الولايات المتحدة تحاول إقناع حلفائها أن الإدارة الحالية هي إدارة مختلفة عن كلّ الإدارات السابقة وهي تعني ما تقوله، بل تعني كلّ كلمة تصدر عن كبار المسؤولين فيها. أكثر من ذلك، أنّ الولايات المتحدة تغيّرت تماما وهي في صدد محاسبة إيران نظرا إلى أنّها تعرف تماما معنى رعاية «الحرس الثوري» لميليشيات مذهبية في دول مختلفة، من بينها العراق وسوريا ولبنان واليمن.
من هذا المنطلق، تبدو الملاحظة الأكثر أهمّية بداية ولادة قناعة لدى حلفاء الولايات المتحدة بأنّ من الممكن الاتكال عليها، لا لشيء، سوى لأنّ هذه الإدارة تعرف تماما أن المشكلة مع إيران ليست محصورة في ملفّها النووي. هناك مشكلة اسمها «الحرس الثوري» الذي لا مهمّة له سوى قمع الإيرانيين أنفسهم في الداخل وملاحقتهم في الخارج والاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية في أنحاء مختلفة من المنطقة.
امتلكت المملكة العربية السعودية ما يكفي من الشجاعة لتأييد الموقف الأميركي من كيان تابع للدولة الإيرانية هو «الحرس الثوري». لا شكّ أن الموقف السعودي يستأهل التوقّف عنده نظرا إلى أنّه دليل على أن المملكة شريك في المواجهة مع إيران التي لم تترك فرصة إلا وسعت إلى الإساءة إليها وإيذائها. التاريخ حافل بأدلة على ذلك منذ المحاولات الأولى التي قامت بها «الجمهورية الإسلامية» أيّام آية الله الخميني من أجل «تسييس الحج». الأكيد أن المملكة العربية السعودية في حال دفاع عن النفس منذ فترة طويلة. لكنّ هذه المرّة الأولى التي تذهب فيها إلى اتخاذ موقف لا لبس فيه من قرار للإدارة الأميركية يستهدف وضع حدّ لسياسة إيرانية تجاوزت كلّ حدود.
هناك بكل بساطة إدارة أميركية تعرف تماما ما هي السياسة الإيرانية. ظهر ذلك جليّا منذ الخطاب الأوّل لدونالد ترامب عن الممارسات الإيرانية منذ سقوط الشاه بدءا باحتجاز ديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران 444 يوما في خريف العام 1979 من دون مبرّر. خرقت إيران كلّ القوانين والأعراف الدولية وذلك منذ اليوم الأوّل لإعلان قيام «الجمهورية الإسلامية». ليس صدفة أن ترامب أشار في خطابه الأوّل عن إيران إلى تفجير مقر قيادة المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الأوّل- أكتوبر من العام 1983. لا يزال تفجير مقر المارينز أسوأ عمل إرهابي تتعرّض له القوات الأميركية منذ نهاية حرب فيتنام في العام 1975. قبل ذلك، في نيسان – أبريل 1983، هاجم انتحاري مقر السفارة الأميركية في عين المريسة، قرب الجامعة الأميركية في بيروت. كان بين الذين قتلوا عدد من خيرة ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إي). كان هؤلاء يعقدون اجتماعا في مقرّ السفارة. لا يزال هذا التفجير إلى الآن لغزا. كيف استطاع من أرسل الانتحاري معرفة أن رؤساء محطات الـ»سي. آي. إي» في المنطقة مجتمعون في السفارة الأميركية في بيروت؟
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي غيّرت بعد ذلك مقر سفارتها، لا وجود لأدنى شكّ بأن إيران وراء التفجير عن طريق «حزب الله» الذي كان تأسّس حديثا. لكنّ ما لا يفصح عنه المسؤولون الأميركيون، كيف حصلت إيران على معلومات دقيقة عن هويّة الموجودين في السفارة في لحظة معيّنة. ثمّة من يقول إن هذا العمل يمكن وضعه في إطار الحرب الباردة التي كانت مستعرة وقتذاك بين أميركا والاتحاد السوفياتي.
جاءت أخيرا إدارة أميركية تريد تصفية كلّ حسابات الماضي والحاضر مع إيران، بما في ذلك تفجير الخبر (في السعودية) في العام 1996، وما تعرّضت له القوات الأميركية في العراق بعد 2003. من الواضح، أن إدارة باراك أوباما، التي كانت خاضعة لإيران وأسيرة ملفّها النووي، لعبت دورها في تنبيه إدارة ترامب إلى أن الوقت حان كي لا يعود هناك تمييز بين الإرهاب السنّي والشيعي. الإرهاب يبقى إرهابا مهما تلطّى بالدين، بغض النظر عن هذا الدين.
ثمّة ملاحظة أخيرة لا يمكن تجاهلها. هذه الملاحظة تتعلّق بلبنان. ليس في وارد أن تصفّي أميركا حساباتها مع إيران في لبنان. هذا ما يُفترض أن يستوعبه المسؤولون اللبنانيون من أكبرهم إلى أصغرهم. ما يُفترض أن يدركه هؤلاء في الوقت ذاته أن العقوبات الأميركية على إيران ستزداد ولن تقتصر على «الحرس الثوري»، بل على كلّ فروعه وأدواته. كيف يستطيع لبنان تفادي حشر نفسه في صراع تريد إيران أن تجعل منه طرفا فيه، خصوصا أنّ هناك ثلاثة وزراء لـ»حزب الله» في الحكومة؟
الأكيد أن لبنان في وضع لا يحسد عليه وأن الردّ على الموقف الأميركي لا يكون بالقول إنّ «حزب الله» هو «حزب لبناني». فالحزب نفسه يقول بلسان أمينه العام حسن نصرالله إنّه مدين لإيران بكلّ شيء. لا يمكن بالطبع تجاهل أن أعضاء الحزب لبنانيون، لكنّ السؤال كيف يمكن لمواطنين لبنانيين وضع مصلحة إيران فوق مصلحة لبنان؟ ألم يعد في لبنان من يمتلك ما يكفي من الجرأة للقول إنّ البلد ليس مستعمرة إيرانية، وأنّه لا يمكن فرض إملاءات عليه من طهران؟
من مصلحة لبنان عدم ترك إيران تجرّه إلى كارثة، لا عبر كلام فارغ من نوع أنّ «حزب الله» هو «حزب لبناني»، ولا عن طريق ترتيب اجتماع لوزير خارجية ڤنزويلا خورخي ارياسا مع رئيس الجمهورية ميشال عون في وقت تعتبر فيه الإدارة الأميركية وكلّ الدول الأوروبية النافذة النظام القائم في ڤنزويلا برئاسة نيكولاس مادورو «غير شرعي».
ما لا بدّ من التنبّه إليه أخيرا، في لبنان وغير لبنان، أنّ الموقف الأميركي من إيران أكثر من جدّي. يعود سبب ذلك إلى أن الكونغرس، حيث يسيطر الديمقراطيون على مجلس النواب، فيما لا تزال الأكثرية في مجلس الشيوخ جمهورية، على خلاف عميق مع إدارة ترامب في شأن مواضيع كثيرة. لكن مجلس النواب الديموقراطي يزايد على صقور الإدارة، مثل نائب الرئيس مايك بنس ومستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية بومبيو، ويذهب في التطرّف إلى أبعد من هؤلاء عندما يتعلّق الأمر بإيران…