حجبت التطورات المتلاحقة في المنطقة، ولا سيما ما اتصل منها بالخطوة الروسية للانسحاب الجزئي من سوريا وانعكاساتها المحتملة، الاهتمام عن الانتخابات التمهيدية الجارية في الولايات المتحدة، رغم أن مؤشرا مهما برز مع توارد الأنباء عن أن الخطوة التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شكلت مفاجأة للولايات المتحدة أيضا ولإدارة الرئيس باراك أوباما، وسط استغراب متجدد لدى مراقبين متابعين لكيفية تجاوز روسيا الولايات المتحدة بهذا الأسلوب، كما لدى التدخل الروسي في سوريا في أيلول الماضي. فمن الصعب جدا التصديق أن الولايات المتحدة فوجئت بقرار الرئيس الروسي وبقرار تدخل قواته في سوريا سابقا، انطلاقا من اعتقاد لا يزال قويا ويصعب دحضه في أذهان أبناء المنطقة، أنه لا يمكن تجاوز الولايات المتحدة، الدولة الأقوى والأكثر اطلاعا من أي دولة أخرى في العالم، ولأن مفاجأتها على هذا النحو، إذا صحّت، فإن ذلك يدفع الى الواجهة أكثر مدى الضرر الذي ألحقته إدارة أوباما بموقع الولايات المتحدة في السياسة الخارجية في المنطقة، نتيجة الانكفاء الطوعي والإرادي الذي يسمح بسيطرة الأجندات الخاصة، ولا سيما لروسيا كما لبعض الدول في المنطقة. يفتح تجاوز بوتين الإدارة الأميركية، ولو جرى اتصال هاتفي بينه وبين أوباما بعد إعلان القرار، الباب واسعا أمام إعادة إثارة الثمن الذي ترتب على انكفاء اميركا عن المنطقة، كما امام الآمال المعلقة على تغيير الادارة الاميركية الحالية وانتظار الانتخابات المقبلة بفارغ الصبر. فالمتابعون للانتخابات التمهيدية الاميركية يسجلون أنها تندفع في اتجاه حصر الترشيحين الجمهوري والديموقراطي بين دونالد ترامب، رغم ما يثيره هذا الاخير من ردود فعل لدى الجمهوريين بالذات، وهيلاري كلينتون التي يرجح أن تختصر دعم الديمواقراطيين وربما حتى الجمهوريين رفضا لوصول ترامب، وليس حبا بها. هؤلاء المراقبون سجلوا تغييبا للسياسة الخارجية كما في كل انتخابات، أقله في هذه المرحلة وقبل انتقالها الى النهائيات. لكن المواضيع الخارجية لا تبدو اساسية، بل تحتل حيزا صغيرا انطلاقا من الحديث مداورة أو بشكل عام عن السياسة الخارجية انطلاقا من عناوين أو شعارات تتناول اميركا القوية او المنعزلة او الضعيفة. ومع ترجيح غالبية المهتمين المتابعين للشأن الانتخابي الاميركي وصول كلينتون للرئاسة ما لم يطرأ عامل مفاجئ حتى تشرين الثاني المقبل موعد الانتخابات الرئاسية، ثمة خشية في ضوء الاقتناع بمستوى الانكفاء الكبير للولايات المتحدة عن المنطقة، والذي هو انكفاء حقيقي على هذا المستوى، ان من سيأتي بعد اوباما، ولو كانت كلينتون هي من ستخلفه، سيحتاج الى وقت إذا أراد أن يغير وينخرط في المنطقة ومشكلاتها، وهي ستأخذ وقتا طويلا من أجل إعادة عقارب الساعة الى الوراء على صعيد العودة الى الانخراط في شؤون المنطقة. وبحسب هؤلاء، ليس أكيدا أنه إذا انتخبت هيلاري كلينتون ستختلف عن أوباما. فالانطباعات التي تركتها من قراءة مذكراتها، الى جانب أحاديث مع كبار مساعديها السابقين بالنسبة الى هؤلاء المتابعين، هو أنها هي من أقنعت الرئيس اوباما حين كانت لا تزال وزيرة لخارجيته بالتدخل في ليبيا، وحاولت لاحقا مع مسؤولين آخرين في المخابرات وسواها أن تحمله على التدخل في سوريا، لكنها فشلت. إلا أن هذا لا يعني أن لها وجهة نظر مختلفة عن اوباما بالنسبة الى الانكفاء عن المنطقة العربية، لأنها تعتبر أن التدخل الاميركي، ولو بقيادة من خلف في ليبيا، فشل، والتدخل في سوريا كان سيفشل لو حصل، وهي تكرر عبارة مفادها أننا نحن الاميركيين تدخلنا في العراق واحتللناه، والنتائج كانت مدمرة، وتدخلنا في ليبيا ولم نحتل، والنتائج كانت مدمرة، وفي سوريا لم نتدخل ولم نحتل، ولكن كانت النتائج مدمرة أيضا، الأمر الذي يفيد وفق معطيات هؤلاء المتابعين أنها لا ترى، كما اوباما، جدوى في المنطقة من دون أن يعني ذلك أنها ستعتمد المنهج او المقاربة نفسها كليا في حال وصولها.
هذا لا يعني أن الرهان ليس قويا على التغيير في الادارة الاميركية، وقد أنهكت سياسة اوباما دول المنطقة، ولا سيما الحلفاء منهم، والتطلع قوي في الوقت نفسه نحو كلينتون تحديدا من أجل أن تظهر ارتدادا على سياسة أوباما كما ارتد هو على سياسة سلفه جورج دبليو بوش، خصوصا في ضوء المآخذ التي أبدتها على السياسة الخارجية لاوباما في بعض المحطات، ثم لأن هناك اقتناعا يترسخ أكثر فأكثر لدى الدول الحليفة لأميركا في المنطقة بأنها باتت متروكة كليا من الولايات المتحدة. وقد غدا واضحا أن التسوية النووية التي أنجزتها مع إيران لم تفتح باب التفاوض معها على المنطقة، لكنها فتحت الباب أمام التطبيع الفعلي بين ايران والولايات المتحدة على حساب دول المنطقة وعلاقات أميركا مع العرب. وبنتيجة تحرك لوبي ايراني فاعل في الولايات المتحدة، اضافة الى اعتبارات أخرى متعددة، فإن ثمة خشية أن يغدو التصور الاستراتيجي لدى الولايات المتحدة ان ايران يمكن ان تؤدي دور استقرار في المنطقة، وانه اذا كانت كلفة هذا الاستقرار هيمنتها فلن يكون هناك مشكلة في التسويق أن ليس لدى الدول العربية جهة يمكن الاعتماد عليها على هذا الصعيد. وحتى يتسلم الرئيس الجديد بعد سنة، يخشى أن تسير مياه كثيرة تحت الجسور في المنطقة.