مع فورة «المحافظين الجدد»، إبّان عهد جورج دبليو بوش، وبعد جريمة 11 أيلول (سبتمبر) وفي موازاة الحربين في أفغانستان والعراق، سادت نظريّة تدخّليّة بسيطة قوامها التالي: كلّ الشعوب طالبة للحرّيّة والديموقراطيّة، لا يردعها عن ذلك سوى حكّامها المستبدّين. هكذا، ما إن تتدخّل الولايات المتّحدة لإزاحة تلك القشرة الحاكمة، جامعةً بين خدمة مصالحها وإعلاء قيمها، حتّى يظهر اللبّ الأصليّ للشعوب الطامحة إلى التغيير. أمّا المثالان اللذان يؤكّدان هذه السيرورة وانطباقها على أمم الأرض من غير استثناء فهما اليابان وألمانيا (الغربيّة) بعد تحريرهما في الحرب العالميّة الثانية.
بساطة هذه النظريّة كانت تكمن في إعدامها كلّ فارق بين الشعوب وتجاربها وثقافاتها وتراكيبها. فالشعوب متساوية كأسنان المشط في طلب الحرّيّة والديموقراطيّة، تتقدّم منهما عاريةً من كلّ تاريخ أو مواصفات بالمعنى التاريخيّ للكلمة، لا بمعنى جوهريّ أو جينيّ طبعاً.
أمّا مع باراك أوباما، وكما توضح مقابلاته التي أجراها وصاغها جيفري غولدبرغ في مجلّة «ذي أتلانتك» الشهريّة، فهناك ميل معاكس تماماً، فحواه إثقال الشعوب بالمواصفات حتّى لتكاد تتجاوز التاريخيّ إلى الجوهريّ. ذاك أنّ الشرق الأوسط، من بين أوصاف كثيرة أخرى ردّدها، «لا يمكن إصلاحه»، كما أنّه واحد أحد يصحّ على محكومه ما يصحّ على حاكمه من دون أدنى تمييز. وهو بقبَليّته وعنفه وتعصّبه وانشغال أبنائه في التفكير بقتل الأميركيّين، لا يندرج في اهتمامات الولايات المتّحدة ولا في مصالحها، بل لا يشكّل تهديداً لأمنها. حتّى تنظيم «داعش»، الذي يشذّ قليلاً عن هذا التأويل، يبقى خطراً «غير وجوديّ» قياساً بأخطار وجوديّة يتصدّرها تغيّر المناخ وما يرافقه من تصحّر وجفاف.
ولا يفوت القارئَ أنّ أوباما ينطلق دوماً من مقارنة ضمنيّة بين العالم الآسيويّ الباسيفيكيّ الذي يحبّه ويعوّل عليه ويراهن على توسيع المساحات المصلحيّة المشتركة بينه وبين الولايات المتّحدة، وعالم الشرق الأوسط الذي يكرهه حتّى الاحتقار واليأس من إمكانات تغييره في المستقبل المنظور.
وإذا كان نفي المواصفات البوشيّ قد واكب التدخّل الكامل، على ما رأينا في أفغانستان والعراق، فإنّ الإثقال الأوباميّ بالمواصفات يواكب ويبرّر كلّ استنكاف عن التدخّل، على ما رأينا في سوريّة تبعاً لطريقة ما في الاتّعاظ بليبيا. فلئن لم يرَ جورج دبليو المجتمع العراقيّ وخصوبة احتمالاته الانفجاريّة، فعند أوباما يبدو المجتمعان الليبيّ والسوريّ مقروءَين جدّاً بوصفهما حاملين لنزاع أهليّ محتّم، فيما الثورة غير مرئيّة بوصفها احتمالاً يعدّل تلك الحتميّة.
وكما يثير هذا الخلاف مشكلة التصنيف الأميركيّ لعالم العرب والمسلمين، فإنّه يثير أيضاً مشكلة تصنيفنا لأميركا. ذاك أنّ الفارق بين نظرتي دبليو بوش وأوباما هو ممّا يستحيل القفز فوقه بحجّة قاسم مشترك أميركيّ ما، أو استشراقيّ، أو إمبرياليّ، أو امبراطوريّ. فهذه النعوت كلّها تبقى أقلّ نفعاً بكثير من متابعة «الحرب الثقافيّة» في الولايات المتّحدة، وما ينجم عنها من تباين في الرؤى السياسيّة، لا في ما خصّ النظرة الأميركيّة إلينا فقط، بل أساساً في ما خصّ النظر إلى أميركا نفسها، وإلى حدود قوّتها. وعلى كلّ من يملك أدنى الشكّ في وجود هذا الانشقاق الكبير ضمن الواحديّة الأميركيّة المفترضة، أن يراجع المعارك الانتخابيّة الدائرة اليوم داخل الحزبين، تمهيداً للمواجهة الرئاسيّة الوشيكة. فهنا يتبيّن على نحو صارخ أنّ مركز أميركا تشقّق وانشطر، وأنّ «رأي أميركا» انعدم تماماً فيما الأطراف، من ترامب إلى ساندرز، هي التي تتكلّم.
وبالطبع ليس المقصود اعتبار مسألة العلاقة تعريفاً وتعارفاً، إلاّ أنّها، بالطبع أيضاً، بعض المسألة.