IMLebanon

أميركا تستسلم لقوتها الناعمة

يرفض العالم الاعتراف بحقيقة أن أميركا أصابها التعب في مفاصل قوتها وبدا الوهن واضحاً على حركتها الثقيلة. في الأصل لا أحد يريد الاعتراف بأن أميركا يمكن أن تتعب، أو أنها كيان يجري عليه ما يجري على بقية الكيانات من إرهاق وتراجع في القوة، ليس لأنها كيان أسطوري، وليس لأن مجاهيدها غير قابلة للنفاذ، بل لأن الجميع يرسم أميركا على مسطرة رغباته، يريدها القوة الضابطة للمتغيرات والمحركة للتفاعلات، ربما لأن الجميع اعتاد العيش في هذا العالم تحت سقف قواعد اللعبة الأميركية ولا يريد رؤية تغيرات لا يمكن تقدير تطوراتها ومصائرها.

قلّة من دول العالم أدركت هذه المسألة وبدأت تعدّل سياساتها على هذا الأساس. أرادت واشنطن تغيير نمط سياساتها الدولية. أنتجت فلسفة باراك أوباما بضرورة تفكيك علاقات أميركا بمناطق الصراع الساخنة وتغيير مقارباتها تجاهها. استحدثت آليات جديدة لإنجاز هذا المتغير، عبر سحب عسكرها من المناطق المفصلية في جغرافية العالم، وتعديل نمط سيطرتها ونفوذها عبر تركيزها على ما أطلق عليه استراتيجيوها في السنوات الأخيرة «القوة الناعمة». أرادت أميركا أن تكسب أكثر بتقليل الانخراط والتكاليف أكثر، وذهبت بعيداً في هذا الاتجاه، فلا هي وصلت إلى النموذج المتخيل لدورها ووضعها وموقعها في السياسة الدولية ولا هي ظلت على تخوم سياساتها السابقة بحيث يمكنها الإشراف على تغيرات القوى في العالم.

لا يعدو الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط بذريعة التوجه صوب آسيا كونه أكثر من شعار تطميني تطلقه الإدارة الأميركية للتغطية على التعب الذي أصابها وقلة الحيلة التي تجد نفسها إزاءها. كل المؤشرات تدل على أن لا اختلاف في الأوضاع الجيوسياسية السائدة في جنوب شرق آسيا، ما ينفي حقيقة وجود أي أثر للحضور الأميركي، فالصين تستكمل مشروعها الجيوسياسي هناك من دون أي تعديلات تذكر وما زالت تمارس سياساتها القائمة على الضغط والتهديد تجاه القوى الحليفة لواشنطن في المنطقة وتمارس أساليب القضم الجغرافي في بحر الصين من دون أدنى تغيير في خطتها، كما أن كوريا الشمالية تواصل تدعيم برنامجها البالستي والنووي بشكل أكبر من ذي قبل.

لكن كيف حصل أن وصلت أميركا إلى هنا؟ بالحسابات المنطقية، لم تظهر قوى دولية منافسة لتدفع بأميركا إلى الهبوط درجة أو أكثر في سلم تراتبية القوة العالمية، كما لم تأت قوة تزاحمها على مساحات نفوذها العسكرية والسياسية والتجارية، وأغلب الهياكل التي تم الإعلان عنها وتظهيرها في العقد الأخير مثل «بريكس» وسواها، لم تكن بدائل قوة حقيقية على مستوى العالم بمقدار ما كانت استعراضات سياسية، كما أن جزءاً كبيراً من خيوط قوة الصين الاقتصادية تتم إدارته من واشنطن نفسها.

يرجح كثير من المحللين أسباب هذا التراجع إلى انخراط أميركا في حروب وصراعات غير متماثلة في السنوات الأخيرة أنتجت صدمات كثيرة لصانع السياسات في أميركا وخيبات على المستوى الشعبي. من جهة أخرى، لم تستطع العسكرتارية الأميركية التكيّف مع نمط الحروب الجديدة في العالم بحيث حرمها ذلك من إنجاز انتصارات حقيقية في الوقت الذي رفع تكلفة مواجهاتها إلى حدود عالية ووضعها تحت ضغط التوتر والاستنفار طويلاً، كما لم تستطع دبلوماسيتها السيطرة على المفاوضات المتشعبة وفي مجالات عديدة، فلا هي استخدمت أوراق قوتها بحرفية، كما حصل ويحصل مع روسيا والصين، ولا هي ابتدعت طرقاً جديدة لتقوية نفوذها وتدعيمه، وما حصل أن دبلوماسيتها ارتكنت إلى رصيد القوة التقليدي لأميركا من دون تحديثه بما يتناسب والمتغيرات المتسارعة على مستوى العالم.

كثيراً ما يحاول بعض التقديرات تصوير التراجع في الفعالية الأميركية على أنه مرحلي ومرتبط بدرجة كبيرة بسياسات ورؤى باراك أوباما التي تفضل التعاطي مع القضايا بالصبر الدبلوماسي الذي ينتج التزاماً مستداماً من الأطراف الدولية المقابلة، وأن هذا الأمر سيتغير كثيراً مع وصول رئيس أميركي جديد، بدليل أن قوة أميركا وفعاليتها تأثرتا كثيراً أثناء فترة رئاسة جيمي كارتر، واستطاع الرئيس رونالد ريغان استعادة تلك الفعالية لدرجة وصلت إلى تحطيم الاتحاد السوفياتي السابق، لكن ثمة فارق بين تلك المرحلة والمرحلة الراهنة، ذلك أن القوة المنافسة كانت في طور تراجع وكانت جبهة الخصوم محدّدة بطرف معلوم، ثم أن الأهم من ذلك أن إدراك واشنطن مصالحها في ذلك الوقت كان مرتبطاً بدرجة كبيرة بتوسيع نفوذها العسكري تحديداً واستناد تلك المصالح إلى هذا النفوذ. باختصار: كانت أميركا قوّة إمبريالية اندفاعية، في حين أن أميركا اليوم قوة حذرة ومترددة، تفضل السياسات الناعمة وتكيّف مهاراتها لتطوير هذا النمط وإتقانه أكثر.