كان للعلاّمة الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله رحمه الله قول ماُثور يدلي به أمام الإعلام وأصدقائه الذين كانوا يرودونه مستنيرين بآرائه ومتزوّدين بتوجيهاته، «لا يمكن التعاطي بوضوح مع الأميركيين، فهم ضبابيون، فتراهم تارة يرمون الورقة الخضراء وتوًّا يرمون الصفراء ثمّ يعرقلون المسعى بالورقة الحمراء»، ينطبق هذا القول على قراءة الأميركيين للانتخابات الرئاسيّة في لبنان، واستطرادًا على الواقع المستشري في المنطقة، بدءًا من تصريح وزير الخارجية الأميركيّ جون كيري وقد أبدى شكوكًا بقدرة «الرئيس العتيد للحكومة» سعد الحريري على دعم المرشّح الكبير للرئاسة العماد ميشال عون، ليبدو تصريحه بداءة سلوك معرقل للانتخابات الرئاسيّة بحسب مصادر مسيحية، أو منطلقًا لزعزعة سياسيّة وربما أمنية واقتصاديّة تجوّف المسعى الكبير لوصول العماد ميشال عون إلى السلطة، والمعنى الميثاقيّ والوطنيّ الأكيد المكنون في عقل عون والمفترض أن يسكبه في خطاب القسم حينما يصل. تميّز تصريح كيري بأنه مزج بين اللونين الأحمر والأخضر، فهو يضيء اللون الأحمر لسعد الحريري على وجه التحديد الداعم لترشيح العماد عون لرئاسة الجمهوريّة وقد تكون الإضاءة منطلقة لإرضاء بعض الأمراء السعوديين المعارضين لوصول عون إلى السلطة في لبنان، فيما اللون الأخضر يضيء لمن يعارضون وصول العماد عون إلى السلطة، وكأنّه يشاء لهم الاتجاه نحو العرقلة ومن ثمّ الزعزعة، وفي المحصّلة ليس الجنرال عون المقصود فقط ولكنّ حزب الله هو المقصود مع حلفائه الممدودين ما بين لبنان وسوريا والعراق، وبخاصّة القيادتين الإيرانيّة والروسيّة.
لم يبدّد الموقف المستتبع لمساعد كيري جون كيربي كلام كيري، من سمع مساعده أو قرأ نصّه اكتشف توًّا بأنّ التوضيح لم يسر بالمطلق باتجاه التبديد على الرغم من قوله بأنّ تلك المسألة تخصّ الشعب اللبنانيّ بكلّ ما للكلمة من معنى من دون أن ينغمس في التسميات أو يشجّع بتوطئة دبلوماسيّة لطالما برعوا بها غير مرّة. فالخصوصيّة التي عبّر عنها كيربي، والمتعلّقة بالشعب اللبنانيّ لم تكن يومًا ما هاجسًا كبيرًا عنده أو عند إدارته أو حتّى عند من كانوا قبله ممسكين بملفات الشرق الأوسط أو حتّى في ذروة علاقاتهم في لبنان من منطلق اهتمامهم بكثير من التفاصيل الداخليّة اللبنانيّة. فهم تضيف المصادر،في اللفظ اليسير يرون أنفسهم بمنأى عنها ولكنّهم بالفعل يعتبرون أنفسهم جزءًا منها، وإذا شئنا بعض الإيغال فهم يرون أنفسهم صنّاعًا لها، إنطلاقًا من ثنائيات أو ثلاثيات دولية وإقليميّة كانت تتمّ في اللحظات الانتخابيّة، ذلك أنّ تاريخ الانتخابات الرئاسيّة في لبنان بني على توازنات تقيمها أميركا بينها وبين سوريا والسعوديّة أو بينها وبين إسرائيل كحالة ظهرت استثنائية سنة 1982. ويمكننا هنا أن نستنتج بأنّ الأميركيين على الرغم من انشغالاتهم بانتخاباتهم الرئاسيّة لم يخرجوا من دائرة الضوء اللبنانيّة بل يعتبرون أنفسهم من ضمن سياق متسلسل وممنهج رأس هذه الدائرة، ولبنان قد يكون بالنسبة لهم منصّة سياسيّة مطلّة على آفاق الصراع من سوريا إلى اليمن، تحت ستار الصراع الإقليميّ والكونيّ بينهم وبين الروس. أو منصّة لاستهداف حزب الله واستضعافه قدر الإمكان بدءًا من الحيّز السياسيّ اللبنانيّ بلوغًا إلى أزمة المنطقة من سوريا إلى اليمن.
حين سئل الناطق باسم البيت الأبيض جون كيربي عن وصول حليف حزب الله إلى الرئاسة جاء جوابه على النحو التالي، بأنّ الحزب لا يزال موضوعًا على لائحة المنظّمات الإرهابية وأمواله مجمّدة. أليس هذا الكلام بحذافيره ومعانيه مكمّلاً لكلام كيري على الرغم من محاولة التلطيف والتبديد؟ بمعنى أنّ الأدبيات الأميركيّة تجاه حزب الله طبيعيّة في النهج العدائيّ المتّبع عندهم تجاه حزب يعاديهم ويقاومهم بالجوهر السياسيّ والعقيديّ، وتجاه أيّة تسوية يقودها الحزب في العمق السياسيّ اللبنانيّ، بطبقتيها الداخليّة والخارجيّة. فهم قد وضعوا الحزب على لائحة المنظمات الإرهابيّة. يبقى هذا السؤال مطروحًا للنقاش وقد تكون خلفه مجموعة من علامات الاستفهام المكدّسة والمتراكمة والتي تشتاق وتتوق لأجوبة واضحة بمعنى التأثير على مسيرة الانتخابات الرئاسيّة في لبنان، كيف سيتمّ التعاطي الأميركيّ مع المرحلة المقبلة، وما سيليها من مراحل تتمحور حول التكليف ومن ثمّ التأليف ووصولاً إلى البيان الوزاري المنتظر؟ تقول بعض الأوساط المراقبة في هذا المجال بأنّ الأميركيين ليسوا متشجعين ولا مشجِعين لخيار لطالما حزب الله كان خلفه وسيقتنصه اقتناصًا بحسب اعتباراتهم ليقول لكلّ المعنيين نحن من جئنا بحليفنا إلى الرئاسة، ونحن من سيضع الشروط والقواعد الحامية لدورنا في انبثاث العهد الجديد وإطلالته. ما يجدر فهمه عند معظم الأوساط السياسيّة بأنّ موقف كيري ومساعده كيربي الموضّح للموقف الأول متكاملان ومتناسقان ومتلاقيان مع عدد من السياسيين في لبنان لعرقلة التوجّه إلى الانتخابات الرئاسية في يوم 31 تشرين الأول من هذه السنة، وربما العمل على عرقلة التأليف بحال وصل الثنائيّ عون-الحريري إلى السلطة، ريثما يتم حسم الصراع في دائرة الإقليم الملتهب.
الموقف الأميركيّ بشكلانيّته على الأقل يحاول التسلّل في تفصيل أساسيّ وربما يكون تكوينيًّا على كلّ المستويات في الجوهر اللبنانيّ. وتقول بعض المعلومات بأنّهم استاءوا من الدعم الروسيّ الملحوظ لهذه التسوية، ويقرأون العنوان الانتخابيّ في لبنان أنّه بند من عملية كبرى يقودها الروس في الحرب السوريّة، بهدف ضمان بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، وقلع وقمع كلّ التنظيمات الإرهابيّة من جذورها سواءً في حلب أو في الرقة أو في معظم المحافظات السوريّة حيث تتواجد فيها التنظيمات التكفيريّة. وفي بعض الرؤى المتكشفة خلف الآفاق، فإنّ الأميركيين من خلال ما يبدونه من قراءات، وجدوا بالضرورة وبحسب معطياتهم بأنّ الدفاع الروسيّ عن بقاء بشار الأسد في سوريا وضمان استمرار عهده هو بند وجزء جوهريّ من التسوية السياسيّة الكاملة التي يتطلّع إليها الروس والإيرانيون كثنائيّ كبير فاعل في المنطقة، وبتطلّب بدوره مساندة كلّ القوى الداعمة لوصول العماد ميشال عون إلى السلطة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّ الروس وإلى أمس قريب وعلى لسان سفيرهم في لبنان ألكسندر زاسبيكين لم يسموا أحدًا بل دعموا مبادرة الحريري وشدّدوا على ضرورة تجسيدها وتمتينها والتحفيز لها، إلاّ أنّ ما نقله الصديق النائب أمل أو زيد من دعم القيادة الروسيّة لوصول العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة يؤكّد بدوره فحوى الموقف الأميركيّ الخاشي من تمدّد المحور الروسيّ-الإيرانيّ وتأثيراته ودور حزب الله في انبلاجه وتثميره وتمتينه وتصليبه على الأرض.
أمّا حزب الله وعلى لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، وفي ذكرى الأسبوع على استشهاد الحاج علاء (حاتم حمادة) في بلدة القماطية قضاء عاليه، فقد أكّد على ثباته في موقفه من انتخاب العماد ميشال عون. سينزل نواب كتلة المقاومة والتحرير بكامل أعضائهم يوم الاثنين الواقع فيه 31 من تشرين الأول ليرموا بأوراقهم في صندوقة الاقتراع وعليها اسم ميشال عون. يؤكّد السيد نصرالله ما قاله مصدر من الحزب منذ أسبوع وقمنا بنقله بأمانة وإخلاص على صفحة الديار بأنّ حزب الله والتيار الوطنيّ الحرّ، وبصورة خاصّة السيد حسن نصرالله والعماد ميشال عون ذات واحدة ولا يمكن لهذه الذات أن تتمزّق أو تتشوّه ملامحها مهما كلّف الأمر. الحزب واضح في ذلك ووفيّ لمبادئه والتزاماته، والتيار الوطنيّ الحرّ بقيادته متلقفون لذلك على الرغم من بعض المحاولات الحثيثة لضرب عرى التفاهم المتين من قوى أخرى.
مع هذا الموقف المتين وغير القابل للتأويل والتبديل، يتحوّل العماد عون إلى مرشّح ميثاقيّ بامتياز بحيازته دعم الحزب وأمينه العام سماحة السيد حسن نصرالله، والعماد في آخر إطلالة تلفزيونية له أكّد دعم الحزب له بصلابة، وزعيم تيار المستقبل الرئيس سعد الحريري ورئيس القوات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع. الشيعة والسنّة وقسم كبير من الموارنة والمسيحيين داعمون له، وتقول معلومات شبه مؤكّدة بأنّ النائب وليد جنبلاط سيطلق خلال هذا الأسبوع موقفه النهائيّ بدعم العماد عون من ضمن فهمه لمعنى الدعم وانسكابه في الخصوصيّة الدرزية واتعكاسه عليها في جبل لبنان. السؤال المطروح من عدد كبير من الأوساط السياسيّة المراقبة، هل ثمّة تسوية انطلقت بين الإيرانيين والسعوديين غير معلنة أوصلت إلى تلك النتيجة؟ ليس من جواب واضح حول وجود تسوية مباشرة بينهما والصراع بينهما كبير، ولكنّ السعوديين مع جناح الأمير محمد بن سلمان بدأوا يمارسون الواقعيّة السياسيّة على الأرض في كلّ المواقع التي أظهروا فيها وجودًا مباشرًا أو غير مباشر، بعدما عاينوا كيف أنّ منسوب الهزائم بدأ يرتفع ولم تعد أوراق القوّة بحوزتهم فتموضعوا مع الرئيس سعد الحريري بهذه النتيجة في لبنان. والإيرانيون الذين منذ البدء كانوا داعمين للعماد عون وأظهروا ذلك لكلّ من راجعهم تلقفوا الاتجاه الإيجابي السعوديّ فتبنوا بدورهم وجود الرئيس سعد الحريري على رأس الحكومة اللبنانيّة.
ولكي يتمّ تفادي أيّ ثغرة خلال المرحلة الفاصلة عن الانتخابات، جاء خطاب السيد نصرالله مؤشّرًا طيّبًا على إمكانية التوسّط بين الأطراف المتنازعة أو المختلفة مع بعضها البعض في قوى الثامن من آذار. فاللقاء الذي جمعه إلى الرئيس نبيه برّي، واضح في متن ومتانة دفاعه عن التحالف الكبير بينهما، والكلام الودود والحميم عن الوزير السابق سليمان فرنجيّة مؤشّر لاجتماع ثنائيّ سيحصل قريبًا، وعلى هذا الإيقاع وفي المعطى زار العماد ميشال عون سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله مؤكّدًا الجوهر الميثاقيّ الراقد في جوف اللحظة التمهيديّة للانتخاب وصولاً إلى لحظة الانتخاب، وقد مهّد وزير الخارجيّة جبران باسيل لهذا التأكيد، إلاّ أنّ بعضًا من المعلومات كشفت بأنّ السيد سيعكف على دعوة الأطراف الثلاثة إلى عشاء عمل، وبتصوّر مبدئيّ أنّ هذا العشاء سيفضي إلى تفاهمات واضحة قد تعيد المياه إلى مجاريها والسيد نصرالله بقامته وهامته ومحبته يملك هذا التأثير الواضح والطيب والخالي من أية ضغوط، وهو في خطابه فسّر معنى التحالف شكلاً ومضمونًا.
لبنان أمام معركة فاصلة، عنوانها الانتهاء من الفرغ وبلوغ الرئيس الميثاقي إلى قصر بعبدا. الانتهاء من الفراغ بات مسؤولية الجميع ومن أجل الجميع، الأساس في كلّ هذا المعطى إبداء تضامننا في اللحظات المصيريّة، إنطلاقًا مما كان يقوله العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله عن الأميركيين للوصول إلى النتيجة المرتجاة. والعماد ميشال عون الذي حاز على دعم ميثاقيّ سيتوجّ رئيسًا لجمهوريّة تستعيد الميثاق كوجه ونهج ووهج يؤمّن انسياب الديمقراطية التشاركيّة بين معظم المكونات، وفي إطار من المناصفة الفعليّة والفعّالة، ومتى استوى العماد على عرش الرئاسة فسيكون المضمون كلّه مستويًا، لتبدأ بعد ذلك رحلة بناء الدولة بمؤسساتها من ضمن مرحلة جديدة مع حكومة يؤلّفها الرئيس سعد الحريري، وتتماهى مع مستقبل لبنان بنباهة ورحابة وبمناعة شديدة تحميه من انعكاس الأزمات عليه، ليكون بهذه الطبيعة الجديدة وطنًا أوّلاً ونهائيًّا لجميع اللبنانيين.