يعترض الصديق الأميركي “العتيق” نفسه المتابع منذ عقود العلاقة بين موسكو والولايات المتحدة والأوضاع في الشرق الأوسط، على الاعتقاد الشائع أن هدف بلاده بعد انهيار المعسكر الشيوعي كان تحويلها دولة عادية. ودليله على ذلك مبادرة أميركا في حينه إلى مدّ روسيا بمساعدات مالية، ودعوتها إياها لتكون مراقباً في اجتماعات حلف شمال الأطلسي كلها ومشاركة في تدريبات جيوش دوله ومناوراتها، ورغبتها في نهوض روسيا وبروزها على المسرح الدولي دولة ديموقراطية. وكل ذلك كان ممكناً في رأيه إلى أن وصل فلاديمير بوتين إلى رئاسة الجمهورية فيها. فهو كان “مُنتجاً” لجهاز الاستخبارات الذي انتمى إليه في العهد السوفياتي. ولذلك كان صعباً عليه التكيّف مع الأوضاع الجديدة، والاقتناع بأن في امكانه الانطلاق منها لبناء روسيا جديدة قوية وذات دور دولي مُرحَّب به، وشريكة في متابعة أوضاع العالم والمحافظة على الاستقرار والأمن فيه. وهنا يلفت الصديق الأميركي العتيق نفسه إلى أن أميركا لم تفهم عقلية بوتين وشخصيته، وربما لم تُجرِ التقويم الفعلي الدقيق له لمعرفة الطريقة الأنسب للتعامل معه، وإلى أنها لم تنتبه إلى حقيقة مهمة هي أن روسيا لم تكن يوماً جزءاً من اوروبا الغربية ثقافياً ودينياً (مذهبياً) والتطوّر السياسي الذي شهدته لم يعكس تطوُّر الأخيرة. فهي انتقلت دائماً من ديكتاتورية إلى أخرى، والآن وصلت إلى بوتين الذي يستعمل الدين والاشتباه في الغرب بل الشك فيه. طبعاً، يستدرك الصديق نفسه، لا بد من انصاف هذا الرجل. فهو يشعر بقلق شديد جرّاء التحوّل التدريجي في الديموغرافيا الروسية، إذ يتزايد عدد مسلمي بلاده جرّاء نسبة الولادة المرتفعة عندهم ويتناقص عدد مسيحييها لانخفاض هذه النسبة، ولأمور أخرى قد يكون الاستهلاك المفرط للكحول أبرزها. ولذلك فإنه يسعى من أجل معالجة هذا الواقع بإعادة دمج المناطق التي انفصلت عن روسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي بها، وتحديداً التي يشكّل الروس غالبية سكانها أو مواطنيها. ومن شأن ذلك في رأيه تحصين الحدود الغربية لبلاده وتقويض النمو السكاني للأقليات الروسية المسلمة.
هذا القلق أو الخوف، لو تناقش فيه بوتين مع الرئيس الأميركي أوباما في هدوء لاكتشف انه يتحدث مع قريب متفهم أو نسيب. ذلك أن أوباما المدرك للواقع المشار إليه ربما يحضّ الدول السوفياتية السابقة المجاورة لروسيا لاعطاء شعوبها المن أصل روسي حكماً ذاتياً واعتبار الروسية اللغة الرسمية الثانية في بلدانهم. لكنه عندما ضمَّ قسماً من جورجيا إلى بلاده كان كمن يقرع جرس الانذار للغرب. وعندما احتل شبه جزيرة القرم معيداً إياها جزءاً من روسيا بدا أنه مصمم على خطّة كان وضعها. ولهذا السبب فإنه يبدو اليوم كأنه وقع في حفرة عميقة حفرها بنفسه ولا يعرف كيف يخرج منها من دون فقدان ماء الوجه ومن دون الحاق الأذى بدفاعاته.
في اي حال، يتابع الصديق الأميركي العتيق نفسه، بوتين مثل كل الروس لا يريد حلف شمال الاطلسي على حدوده. ولذلك فإن منح جورجيا العضوية فيه كان خطأ. وكذلك المساهمة في “قلب” الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش على رغم ضرورة ذلك، إذ تعزّزت المخاوف الروسية. علماً أن المسؤولين في موسكو كانوا مقتنعين بأن أوكرانيا ستنضم إلى “الأطلسي” الذي يصبح على حدود بلادهم بدءاً من دول البلطيق وانتهاء بدول سوفياتية سابقاً. انطلاقاً من هذا الموقف احتل بوتين “القرم” كي لا تقع في أيدي “الأطلسي” رغم أن لا قيمة لها في نظر الأخير. إذ لم تكن يوماً جزءاً من غرب أوروبا، واجتيحت مرات عدة من السويديين والفرنسيين والألمان، وكذلك من القوة المشتركة الأميركية – الفرنسية – البريطانية التي أُرسلت إلى روسيا لمحاربة الثورة الشيوعية بقيادة لينين. في اختصار لا يثق بوتين بأميركا ولا بالأوروبيين ويرى مؤامرة غربية كلما حصل تطوّر كبير.
أما في سوريا، التي أنهى الصديق كلامه بها، لا يستطيع بوتين القيام بالكثير خلافاً للشائعات باستثناء استعمال قوته الجوية لقصف المتطرّفين والدفاع عن المنطقة العلوية. فقواته المقاتلة منتشرة على الجبهة الغربية. وقد لا تكون لديه القوة البرية الكافية لمحاربة هؤلاء وحده. لكنه يثير القلق بسبب جنون العظمة لديه وروح المغامرة فيه حتى عندما يكون ضعيفاً. تحركاته الأخيرة ستغضب كثيراً السُنّة وستُستهدَف قواته، وسيتدفق الاسلاميون على سوريا للقتال ولن توقفهم تركيا، وإسرائيل ستقلق، وإيران ستخشى سيطرة روسيا على نظام الأسد.