طبيعي أن يذهب الفرنسيون إلى إيران بعد «اتفاق فيينا». وأن يلحق بهم البريطانيون، وأن يسبق الألمان الجميع. وأن تتقاطر الوفود الأوروبية، السياسية والديبلوماسية والمالية الاقتصادية، إليها، طمعاً بمتطلبات المرحلة اللاحقة لرفع العقوبات، وما تستبطنه وتظهره من فوائد كبيرة.
وطبيعي أن «ترحّب» دولة الولي الفقيه بكل تلك الوفود، تبعاً لحاجتها الماسّة الى كل شيء (تقريباً) من دول المصدر، باعتبار أن سنوات الحصار الطويلة التي سببتها العقوبات، لم تنتج، على عكس الادعاءات التعبوية، ما يمكّنها من تعبئة الفراغ.. من قطع غيار الطائرات المدنية إلى تلك المخصصة للصناعة الطبية، الى كل شيء آخر يدل على التقنية الحديثة.. بل على الحداثة نفسها.
إلا أن الأوروبيين لا يعوّضون إيران عن الأميركيين. وهؤلاء في كل حال يقفون عند الباب. وينتظرون جرس (الكونغرس والإدارة) لفتحه.. وانتظارهم محكوم باطمئنان العارف، وليس بقلق الخائف من تفويت الفرصة، أو سحبها من قبل الذين استعجلوا لالتقاطها.. هؤلاء يعرفون (بفراسة!) وعن قناعة، بأن «حصتهم» في إيران محفوظة ومحروسة! وأنها، على عكس الهوامش الأوروبية، تعني في السياسة (والثقافة) بقدر ما تعني في التجارة وحركة رؤوس الأموال والاستثمارات.
والأمر لافت وولّاد استغراب: ثلاثة عقود ونصف العقد في إيران، من القطيعة المؤدلجة، والتعبئة المضادة والمستدامة على مدار الساعة والأيام، وفي كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، وفي كل المجالات، السياسية والثقافية والفنية والرياضية والتجارية والدينية.. وسلسلة متفرقة من المواجهات الأمنية (والإرهابية) على مديات جغرافية تمتد من جنوب شرقي آسيا الى أقاصي أميركا الجنوبية وما بينهما.. ومع ذلك كله تبدو واشنطن «مطمئنة» الى «حضورها» في إيران، أكثر بكثير مما يفترضه قرّاء الظاهر والظواهر. ويبدو الإيرانيون في المقابل، كأنهم على المستوى ذاته من «الإيمان» بعمق «الروابط» مع الولايات المتحدة، وعصيانها على الذوبان في أسيد العداء الذي تراكم على مدى 35 عاماً!
.. ثقة عميقة ومتبادلة! عزّزها أن أحداً أو شيئاً، لم يعبّئ الفراغ الذي خلّفه الأميركيون في إيران بعد خروجهم منها نتيجة «الثورة» التي أطلقها الإمام الخميني. لا النصّ المضاد والمشيطن الذي اعتمده النظام، ولا العلاقات البديلة مع غير الأميركيين: لا الروس وتقنياتهم وصناعاتهم وفنّهم، ولا الفرنسيون وثقافتهم، ولا البريطانيون وتاريخهم، ولا غيرهم أيّاً يكن. وحدها «أميركا»، بما هي المنتج والمصدّر الأول لكل ظواهر الحداثة، من الموضة الى الفن إلى تقنيات التواصل الى التصنيعين الحربي والفضائي، بقيت (على ما يبدو) حاضرة طاغية في الوعي المركّب للإيراني، العادي والمسؤول.. ولذلك (مرة أخرى) كانت أبرز الدلالات على تلك الحالة، هي التظاهرات الصاخبة التي شهدتها شوارع طهران غداة الإعلان عن التوصل إلى «اتفاق فيينا». فهذه خرجت، «لتحتفل» بالوصول إلى اتفاق! فيما كان الطبيعي في دولة «الولي الفقيه»، أن تتم الاحتفالات «بالانتصار» وتصنيع «القنبلة النووية»! وليس بإسدال الستار على ذلك المشروع!
والملاحظة الجديرة بالتقدير والاحترام، هي أن غالبية الذين احتفلوا بإعادة وصل ما انقطع مع الغرب (والأميركيين أولاً وأساساً) هم من الشباب الذين يُقال، إن نسبتهم من الإيرانيين تقارب الـ58 في المئة.. ومعدّل أعمار هؤلاء لا يتعدى منتصف الثلاثينات، أي من عمر «الثورة» تماماً بتاتاً!!
ما هي علامات الحرب الناعمة؟! وبأي ميزان يوزن «اتفاق فيينا»: بميزان «الثورة» ونظام «الولي الفقيه» أم بميزان خبث (أو ذكاء، لا فرق!) مستر أوباما؟! وإذا كان الجيل الجديد، على هذا القدر من التطلع إلى «الأعداء» المفترضين، فماذا فعلت هذه «الثورة»؟!