في النزاع الأميركي – الإيراني تضاعف واشنطن الضغط على نظام الملالي “كي يغيّر سلوكه” ولتصبح إيران دولة طبيعية، أما طهران فتمضي إلى مواجهة أميركا للحفاظ على ماء الوجه وعلى نظامها وسلوكه، أي لتبقى كما يراها العالم دولة غير طبيعية. تعرف الإدارة الأميركية أن كل القوى الدولية، من روسيا والصين إلى الاتحاد الأوروبي ومعظم أميركا اللاتينية وأفريقيا، لا تحبذ سياسات دونالد ترامب بل تمقتها وترفضها عموماً. في المقابل يعرف نظام الملالي أن رفض النهج الأميركي لا يعني إعجاباً بسياسات إيران وممارساتها، لكنه يتوهّم أنه يستطيع تجيير هذا الموقف لمصلحته، مثلما يتوهّم أنه يمكن أن يخرج قوياً ومنتصراً من مواجهة عسكرية، إذا حصلت، فيما يفيد حسن روحاني بأن قسوة العقوبات فرضت على إيران وضعاً أسوأ مما عرفته في الثمانينات خلال حربها مع العراق.
فجر الأحد الماضي، شهدت مياه الخليج ما يمكن أن يشكّل واقعة أولى في المواجهة، إذ جاءت بعد أسبوع من اعلان واشنطن (الأحد 5/05/2019) إرسال حاملة الطائرات “أبراهام لينكولن” وقطع بحرية إلى المنطقة كخطوة تحذيرية بعد تزايد مؤشّرات إلى أن إيران تستعد لاستهداف القوات والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط والخليج. وبعد يومين هوجمت محطتا ضخ بترولي في منطقة الرياض بطائرات “درون” أطلقها الحوثيون من اليمن، وأحدثت أضراراً محدودة. لكن عملية التخريب التي تعرّضت لها أربع سفن في “المنطقة الاقتصادية الإماراتية” في المياه الدولية تدخل في سياق التوتر الإقليمي، إذ لا يمكن أن تُنسب إلى جماعات إرهابية بل إلى قوات خاصة تنتمي إلى دولة، وقد أرادتها طهران رسالة تحدٍّ أولى من دون أن تتمكّن واشنطن من الردّ عليها. لماذا؟ أولاً: لأنها غير مباشرة ولم تتعرّض لهدف أميركي. ثانياً: لأنها ملتبسة وقد لا يوفّر التحقيق فيها أدلّةً تمكّن الدول المعنيّة من الإعلان رسمياً عن الجهة المعتدية. ثالثاً: لأنها محدودة الأضرار وإن كانت تنذر بمخاطر لا يمكن السكوت عليها.
لا يترك موقع الاعتداء وطبيعته مجالاً للشك في هوية الفاعل، ولم تتحفّظ إيران في ترك العملية بلا توقيع، كما ظهر في بعض الوقائع وكذلك في التحليلات الأوليّة:
1- حرصت طهران على أن يُعلن النبأ أولاً عبر أداة إعلامية تابعة لها ثم أوعزت إلى أدواتها الأخرى بفتح تغطية خاصة للحدث.
2- على رغم أن الهدف كان سفناً تجارية في موقع يُفترض أنه آمن “دولياً” إلا أن التعليق الايراني الأول حدّد الرسالة من الاعتداء وهي أن “أمن جنوب الخليج أشبه بالزجاج” وقد تبرّع به رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان حشمت الله فلاحت بيشة.
3- أما الرسالة الثانية فهي أن إغلاق مضيق هرمز ممكنٌ لكن ثمة بدائل موقتة منه لتهديد سلامة الملاحة الدولية.
4- أن عنصر المفاجأة في عملية التخريب هذه يرمي إلى تدشين نمط مواجهة مرشح لأن يتكرّر في منطقة حسّاسة كهذه.
5- أن إيران لن تبادر إلى استفزاز أميركا أو مهاجمة أسطولها الضخم مباشرة، بل بأسلوب القرصنة وحرب العصابات ولن تلجأ إلى الميليشيات التابعة لها إلا في مرحلة تالية.
6- يمكن اعتبار عملية التخريب هذه ايذاناً بأن المواجهة بدأت (بالنسبة إلى إيران) واختباراً أولاً لجعل منطقة الخليج مسرحاً لهذه المواجهة.
على رغم أن الهجمات بالطائرات المسيّرة تعتبر ضمن الردود الحوثية – الإيرانية اليائسة على حرب اليمن، إلا أنها تأتي مع الاعتداءات على السفن في إطار سعي طهران إلى بناء واقع مواجهة طويلة المدى يمكن أن تبقى سجالاً ولا تفضي إلى أي حسم، لكنها لا تغيّر شيئاً في واقع العقوبات، ولا تحقق الهدف الرئيس لإيران. فالمعادلة الصعبة هي كالآتي: عقوبات أميركية مقابل عمليات تخريب وتفجير إيرانية تديم العقوبات أو تؤدّي إلى مزيد منها. الولايات المتحدة غير متضرّرة من العقوبات التي تحقق لها أهدافاً من دون أن تقتل أو تدمّر، وستبذل إيران جهداً خاصاً لتجنب المسّ بقوات أو بمصالح أميركية لئلا تتلقّى رداً مباشراً في أراضيها. لم تأتِ العقوبات من فراغ أو من دون سبب، فالعقل السياسي للنظام الإيراني انقاد إلى عقيدة “العداء لأميركا” وعمل كل ما في وسعه لاستدراجها فلم يرحم شعبه ولا احترم أسس التعايش مع جيرانه. لا شك أن دول الإقليم ستتحمّل تبعات المواجهة غير المباشرة مهما بلغت خطورتها لتبقي الوضع أمام عتبة الحرب من دون أن يتخطّاها، وقد تضطر لتحمّل خسائر لكن التعرّض لاقتصادها واستقرارها يجب أن يكون خطّاً أحمر أميركياً لأن أي تمادٍ إيراني لن يفاقم الخطر على الحلفاء فحسب، بل سيشكّل إخفاقاً للولايات المتحدة على المستوى الدولي.
لكن يبقى القلق والخوف قائمين من انزلاق إلى حرب، وإذا حصلت فستكون خياراً إيرانياً لأكثر من سبب. الولايات المتحدة ليست مضطرة لخوض حرب لأن العقوبات تحقق لها أهدافها، ثم أن الحضور العسكري الردعي يكفي واشنطن لأمرين: حماية الجنود والمصالح، ورسم خط أحمر لإيران. أما بالنسبة إلى طهران فإن هذا الوجود الردعي، مضافاً إلى العقوبات القاتلة، وإلى تصنيف “الحرس” إرهابياً، وإلى نقمة شعوب إيران على النظام، وإلى غموض مصير “نفوذها” في العراق وسورية واليمن ولبنان، تستدعي منها التحرّك للمواجهة وإلا فإن استراتيجيتها الأساسية ستواصل التآكل والانكماش. فماذا يفيد قادة “الحرس” أن أكثِروا من المزايدات الكلامية طالما أن كلمة السرّ المتداولة بينهم أن التعرّض للأميركيين “ممنوع”، وطالما أنهم اضطرّوا للعضّ على الجرح والتكتّم على أسوأ الضربات الإسرائيلية لهم في سورية. كل ذلك يكشف تاريخاً من أكاذيب الشحن العقائدي لأتباعهم وقد بنوها على “الموت لأميركا والموت لإسرائيل”.
لا أحد يتصوّر أن تعمد طهران طوعاً إلى تغيير سلوك ذهبت فيه إلى الحدّ الأقصى من العدوانية، فلا وازع دينياً أو أخلاقياً يردعها، والفتاوى الخرقاء جاهزة دائماً لتبرير جرائمها. كثيرون انتهوا، بعد محاورتها ونصحها والتوسّط معها، إلى أنها لا تريد أن تفهم إلا ما زرعته في رأسها من أساطير وأوهام، وأنه لا مجال لإخراجها من عنادها المتغطرس إلا بضربة موجعة تعيدها إلى الواقع. عدا ذلك، يبقى عبثاً البحث عن تفاهم معها أو محاولة اقناعها بالكفّ عن اللعب على حافة الهاوية. لا شك أن القوة العسكرية التي راكمتها إيران هي التي تشعرها اليوم بشيء من التوازن إزاء عزلتها الدولية وتهاوي اقتصادها وعملتها، لكن عدم تعرّضها لأي تهديد جدّي سيشجعها على مواصلة إدارة لعبة الإرهاب وتهديد جيرانها.
إذا كان الهدف من التصعيد الحالي جلب إيران إلى التفاوض فإنها لن تأتي بالسهولة التي يتخيّلها ترامب، بل بالإخراج الذي تعدّه والشروط التي تحدّدها، خصوصاً أنها راقبت التجربة الأميركية مع كوريا الشمالية واستوعبت دروسها، فلا تنازل إلا مقابل تنازل، وهذه مساومة يمكن أن تطول أكثر مما يتصوّر الأميركيون، والإيرانيون يجيدون المماطلة. في الإخراج تحتاج إيران إلى حافز، إلى حرب “متكافئة” كالتي تحاول أن تخوضها بعمليات إرهابية وتخريبية ويمكن استخدامها كمبرر للبدء بالتفاوض، أو إلى “نصرٍ” ما على “الشيطان الأكبر” يصلح كمدخل إلى التفاوض. أما في الشروط فلن تكون أقلّ من رفع القيود عن تصدير النفط وعن القطاعين المالي والمصرفي. لكن أي تراجع أميركي في الشكل أو في المضمون للحصول على التفاوض لن يشكّل خذلاناً للحلفاء العرب فحسب بل سيكرّر الأخطاء التي ارتكبت في إعداد الاتفاق النووي.