IMLebanon

أميركا تعاقب و… روسيا تتمدد في المنطقة!

 

العقوبات الأميركية الجديدة على روسيا تعقد العلاقات بين البلدين. لكنها لن تثني الرئيس فلاديمير بوتين عن مواصلة إستراتيجيته. حتى وإن حذر مستشاره أليكسي كودرين من أنها قد تشكل عبئاً لعقود، وتحد من النمو الاقتصادي لبلاده وتحول دون استعادتها مكانتها قوة اقتصادية رائدة. والدليل أن العقوبات السابقة التي أقرها الغرب عموماً على موسكو بعد تدخلها في أزمة أوكرانيا و «استعادتها» شبه جزيرة القرم لم تدفعها إلى تليين موقفها، بقدر ما أثارت مخاوف دول البلطيق وبولندا وغيرها من دول «المعسكر الشرقي» السابق. بل شكلت حافزاً لها على مزيد من التدخل في أماكن أخرى، خصوصاً في المنطقة العربية عموماً. ومع أن هذه السياسة لاستعادة روسيا مكانتها على غرار ما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي، إلا أنها تبقى بعيدة عن إعادة بعث الحرب الباردة. فميزان القوى بين الدولتين الكبريين راجح عسكرياً واقتصادياً لمصلحة الولايات المتحدة ولا يتيح لغريمتها تصحيحه بسهولة. فضلاً عن أن ثمة قوى صاعدة في العالم. أولها الصين التي لن تكرر تجربة الوقوف على الحياد في «الصراع» بين أميركا وروسيا. وثانيها أوروبا التي تسعى إلى نهج سياسة مستقلة عن المقلب الثاني من الأطلسي رداً على نهج الرئيس دونالد ترامب الذي خرج من معاهدة باريس للمناخ ويسعى إلى سياسة أكثر حمائية ويمارس ضغوطاً على القارة العجوز، ولا يراعي مصالحها وما تلحقة العقوبات الأخيرة باقتصادها وعمل شركاتها. علماً أنها لا ترغب في الصدام مع جارها الشرقي بقدر ما تسعى إلى التعاون والتفاهم معه حول كثير من المعضلات السياسية والأمنية الناشئة بسبب ما يشهده الشرق الأوسط من حروب وأحداث. وهناك ثالثاً قوى إقليمية كبرى لا تبدأ بالهند ولا تنتهي بالبرازيل.

هذا الميل الأوروبي إلى التعاون مع روسيا يعزز مكانة الطرفين. وحتى موسكو ذاتها لا ترغب في مقاطعة جيرانها غرباً ولا واشنطن على رغم هذا التخبط في سياسة إدارتها. بل يهمها مواصلة التعاون من أجل حماية مصالحها في الخارج. لذلك حرص وزير خارجيتها سيرغي لافروف على التواصل مع نظيره الأميركي ريكس تيلرسون لتبرير قرار طلب تقليص عدد موطفي البعثة الأميركية في بلاده. وذهب أبعد بالتعبير عن الاستعداد لتطبيع العلاقات الثنائية والتعاون في ملفات عالمية كبرى. ولا شك في أن روسيا حريصة على مواصلة هذا التعاون في سورية خصوصاً لأنه يسهل لها تحقيق إستراتيجيتها في هذا البلد ويمكنها من ترسيخ أقدامها وتعزيز حضورها على شاطىء المتوسط. فيما تسعى إلى تمتين علاقاتها مع القاهرة ومع عواصم دول الخليج كافة التي يهمها أن يكون هذا التوسع على حساب تقليص مساحة النفوذ الإيراني. كما تسعى إلى توسيع دورها في الأزمة الليبية حيث تقيم علاقات متينة مع المشير خليفة حفتر المناوىء لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج والتي تلقى دعماً أميركياً وأوروبياً. علماً أن قائد الجيش الوطني والقوى السياسية في شرق ليبيا يفيدون من دعم واضح من دول خليجية ومصر. ولا تضير هذه الدول مثل هذه العلاقة بين المشير وموسكو لأن ذلك يعزز قوته وقدرته على مواجهة القوى السياسية في غرب البلاد، والتي تتلقى دعم إسلاميين يفيدون من دعم تركيا وقطر. وهذا ما أخر ويؤخر حل الأزمة الليبية. ولا يخرج اليمن عن التوجه التوسعي لروسيا التي ترغب في استعادة ما كان للسوفيات في «اليمن الديموقراطي». وهي ترتبط بعلاقات جيدة مع الانقلابيين، ولم تقفل الباب مع الشرعية بل رحبت أخيراً بالسفير الذي انتدبه الرئيس عبد ربه منصور هادي لتمثيل هذه الشرعية في موسكو. هذه المروحة الواسعة من العلاقات التي لا تستثني التفاهم العميق مع حكومة بنيامين نتانياهو ومع السلطة الفلسطينية أتاحت وتتيح لروسيا مزيداً من التمدد في الإقليم.

في حين أن سياسة ترامب في كل من العراق وسورية، وغض الطرف عن دور «الحشد الشعبي» في الحرب على الإرهاب، ودور «حزب الله» في بلاد الشام ومعركة جرود عرسال والقلمون، عززت دور إيران. وسهلت لروسيا مواصلة عملها لإقامة «مناطق خفض التوتر» التي تخدم في المحصلة رؤيتها لمستقبل سورية. ويكفيها أن قواتها هي التي تتولي حراسة الهدنات في هذه المناطق. وقد تجيء خطة البنتاغون لتعزيز حضور قواته في سورية وحتى العراق متأخرة. إذ لا شيء يمكن أن يحد من نفوذ طهران في «سورية المفيدة» التي يسيطر عليها النظام من دمشق إلى حلب مروراً بحمص وحماة، وهو المدين لها ببقائه حتى الآن. أما في بلاد الرافدين، فقد نسبت وكالة «سبوتنك» إلى نوري المالكي غداة وصوله إلى موسكو الأسبوع الماضي «رغبة بلاده في رؤية وجود روسي لديها بثقل عسكري وسياسي»، بهدف «موازنة النفوذ الأميركي». وبات معروفاً أن الجمهورية الإسلامية يقلقها الدعم الأميركي الواسع الذي يتلقاه رئيس الوزراء حيدر العبادي ويمكن أن يوفر له ولاية ثانية بمواجهة خصومه. وما يزيد قلقها التشظي الذي يصيب تحالف القوى الشيعية مع اقتراب موعد الانتخابات العامة، وكان أبرزها، بعد سياسات مقتدى الصدر، خروج عمار الحكيم من «المجلس الإسلامي الأعلى» لإطلاق تياره «الحكمة الوطني». وهدفه توزيع شبكة علاقاته مع جيران العراق فلا يقتصر الأمر على طهران وحدها. لكن استجابة موسكو طلب زعيم «دولة القانون» ستثير حفيظة واشنطن وغضبها. وستدفع العلاقات بين العاصمتين إلى موقع يصعب بعده إصلاح الأمور. فهي تدرك أن إدارة ترامب تضع في أولويات إستراتيجيتها الجديدة مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، خصوصاً في العراق. ويعني تحقيق هذا الهدف تقطيع أوصال خطوطها مع كل من سورية ولبنان حيث تستعد لفرض عقوبات جديدة مالية ومصرفية خصوصاً تطاول «حزب الله». ولا شك في أن تشديد الكونغرس والرئيس ترامب العقوبات على إيران بسبب برنامجها الصاروخي وتجاربها في هذا المجال تتيح للكرملين استغلال غضبها وحاجتها إلى نصرته إياها دولياً، كما كان يفعل في السنوات السابقة في عز التوتر الذي رافق بناء برنامجها النووي. إذ كان يبني مواقفه من هذا البرنامج استناداً إلى علاقاته مع البيت الأبيض ومطالبه منه.

ولا شك في أن «اتفاق الغوطة الشرقية» لدمشق، على غرار ما حصل في «جبهة الجنوب» يعزز دور روسيا وحلفائها في بلاد الشام. كما أن الحملة العسكرية لإنهاء وجود «هيئة تحرير الشام (النصرة) و «داعش» في القلمون ومناطق الحدود اللبنانية – السورية يخدم هذا الدور ومعه الدور الإيراني أيضاً. وتبقى منطقة حمص وريفها، والأكثر صعوبة منطقة إدلب حيث باتت اليد العليا لـ «النصرة». وتشكل هذه المنطقة امتحاناً لقدرة تركيا على فرض الأمن فيها. ولا شيء يحول دون مقايضة روسيا لها بمساعدتها على دخول عفرين أو منع ربط هذه المنطقة الكردية بمنطقتي كوباني والجزيرة. عندها تكون موسكو حققت لأنقرة ما تريد حيث عجزت واشنطن أن تستجيب مخاوفها من قيام منطقة حكم ذاتي واسعة للكرد. وإذا تحقق قيام «مناطق خفض التوتر» الأربع تكون صورة مستقبل سورية قد رسمت. إنها الفيديرالية التي عمل لها الكرملين منذ بدء التدخل العسكري الروسي في بلاد الشام. عندها لا شيء يضمن ألا تخرج الولايات المتحدة خاسرة من هذه الصورة، خصوصاً إذا تعذر عليها قطع خطوط الإمداد الإيرانية من طهران إلى بيروت. وحتى الفصائل التي دربتها وتعتمد عليها في التنف لمواجهة «داعش» اليوم ومواجهة ميليشيات «الحرس الثوري»، بدأت تتمرد عليها وتخلي هذه القاعدة وغيرها بسبب معارضتها أوامر تمنعها من التعرض لقوات النظام السوري ومطالبتها إياها بحصر القتال بالتنظيم الإرهابي.

كذلك إن احتفاء الرئيس رجب طيب أردوغان بقرب الحصول على صفقة صواريخ «إس 400» من روسيا ستفاقم علاقاته مع أوروبا والولايات المتحدة أيضاً. فهو يشعر بمزيد من الحصار. ذلك أن توتر علاقاته مع ألمانيا ودول أوروبية أخرى يبعده أكثر وأكثر عن فضاء القارة. كما أن موقفه من الأزمة بين قطر وشقيقاتها في الخليج ومصر يهدد بإقفال أبواب المنطقة بوجهه سياسياً واقتصادياً. وهو أمر قد يجره إلى تعميق تعاونه مع موسكو على حساب علاقاته مع الغرب عموماً. كما أن أوروبا التي أربكتها المواقف السياسية المتتالية لترامب، أثارت العقوبات الجديدة غضبها. ويرى الألمان الذين تولى بعض شركاتهم العمل في خطوط إمداد الغاز الروسي إلى القارة، أن الإجراء ضد روسيا يطاولهم كطرف ثالث ويفاقم توتر العلاقات بين برلين وواشنطن. ودعت «اللجنة الألمانية للعلاقات الاقتصادية في أوروبا الشرقية» أوروبا إلى الاستعداد للرد على الكونغرس بالمثل. وعزت موقفه إلى رغبة أميركا في تعزيز صادراتها من الطاقة إلى القارة العجوز، لخلق فرص عمل في السوق الداخلية وتعزيز سياستها الخارجية. ومعروف أن قطاع الطاقة في روسيا يعد إحدى ركائز قوة سياستها الخارجية حيال الاتحاد الأوروبي. وهو سلاح لوّحت باللجوء إليه واستخدمته في أكثر من مناسبة في الماضي القريب والبعيد. بل هو أحد أسباب اندفاعها إلى سورية التي كانت إيران وقطر ترغبان في استخدام أراضيها لخطوط تمد أوروبا بالغاز ومنافسة الغاز الروسي. وحتى الصين أقلقتها العقوبات التي أقرها الكونغرس على روسيا وإيران وكوريا الشمالية. وانتقدت ما سمته «العقوبات الأحادية». وحذرت من أنها ستتصدى بحزم لأي إجراء مماثل قد يسيء إلى مصالحها الاقتصادية. فهي تخشى تطور السياسة الحمائية التي ينادي بها الرئيس ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، على رغم تكرار إعجابه بالرئيس الصيني تشي جين بينغ! العقوبات الأميركية تتوسع وروسيا تتمدد من الإقليم وأوروبا حتى كوريا الشمالية!