لم يستفد أي بلد مجاور لسوريا من أزمتها وتداعياتها أكثر من تركيا، فهي عرفت، خلافاً للبنان، كيف تستفيد من وجود كلّ نازح سوري على أرضها، ووقعّت إتفاقاً مع دول الإتحاد الأوروبي أقرّ تسريع تسديد المساعدات بقيمة 3 مليارات دولار لاستضافة النازحين السوريين، وألغى تأشيرات دخول الأتراك الى أوروبا، ووعد باستئناف المحادثات حول انضمام تركيا الى الإتحاد. غير أنّ محاولة الإنقلاب الأخيرة التي حصلت ضد الرئيس الحالي رجب طيّب أردوغان جعلت الإتحاد يعيد النظر في ضمّها اليه، لا سيما بعد أن بات هذا الأخير ضعيفاً، وليس بحاجة الى أي توسيع.
أمّا لبنان فلا يزال يتخبّط بوجود أكثر من مليون ونصف مليون نازح سوري على أرضه، ولا يفرّق بين الصالح والطالح من بينهم. فالحكومة غير مطلعة تماماً على أعدادهم الحقيقية وأماكن تواجدهم، ولا تدري كم هو عدد الإرهابيين المندسّين فيما بينهم في بعض المخيمات المؤقتة التي بنوها لأنفسهم، رغم رفض الحكومة إقامة مخيمات شرعية لهم على أراضيها، بل نادت بإقامتها على الحدود اللبنانية- السورية لجهة سوريا، ولم يستجب أي من دول مجلس الأمن لطلبها.
ويفرض عدم الإمساك بزمام الأمن في الكثير من المناطق اللبنانية، ولا سيما منها الحدودية، على ما تقول أوساط ديبلوماسية مطلعة، وخصوصاً بعد تفجيرات القاع الأخيرة، والخوف من أن تتكرّر مثل هذه العمليات الإنتحارية في مناطق أخرى، تحرّكاً فعلياً من قبل الحكومة. ويفرض ذلك وضع دراسة جديّة حول وضع النازحين المنتشرين على أراضيها، والذين بإمكانهم القيام بما يريدون من دون أي حسيب أو رقيب.
غير أنّ الحكومة اليوم لا تزال تتلهّى بملفات أخرى، ولا يجد أي منها طريقه النهائي للحلّ في ظلّ انسداد الأفق أمام انتخاب رئيس البلاد. فالولايات المتحدة لا تجد أنّ انتخاب الرئيس في لبنان هو أولوية اليوم، على ما تؤكّد الأوساط، في ظلّ عدم توصّلها مع الجانب الروسي الى حلّ للأزمة السورية. وقد جاءت محاولة الإنقلاب التركية الأخيرة، أكانت مفبركة (من قبل أردوغان) أم حقيقية (من قبل معارضيه) لتفرض نفسها على دول العالم لجهة القلق على مستقبل تركيا، لا سيما في حال تكرّرت مثل هذه المحاولة ونجحت هذه المرّة.
كذلك فإنّ البعض قد اتهم الولايات المتحدة الأميركية بأنّها هي من شجّع المعارض التركي الشيخ فتح الله غولن المقيم على أراضيها على تنفيذ الإنقلاب في تركيا، والهدف من ذلك إيجاد حلّ شامل للأزمة السورية التي لا تزال تركيا عائقاً أمامه من خلال فرضها الشروط والمطالب من هنا وهناك. غير أنّ فشل المحاولة قد أعاد أميركا الى نقطة الصفر في هذا السياق، الأمر الذي جعلها تفتّش عن منفذ آخر لحلّ الأزمة السورية، والأزمة السياسية في لبنان، والتخلّص من حلم سيطرة الرئيس التركي أردوغان على المنطقة.
وفي هذه الأثناء التي لن تُحلّ فيها أزمة الرئاسة في لبنان، انطلاقاً من أنّ الأمور تسير فيه بشكل مقبول حتى من دون وجوده، على ما ترى الأوساط، لا بدّ لحكومته من إيجاد الحلول المناسبة لأزمة النزوح السوري فيه، كما لمسألة الإرهاب المتنامي على حدوده. فالنزوح السوري بات الهم المستقبلي الذي يتهدّد هذا الوطن، خصوصاً وأنّ الولايات المتحدة تصرّ على دمج النازحين في المجتمعات المضيفة، أو بالأحرى «توطينهم» فيها، مقابل بعض الإغراءات المادية التي تنوي تقديمها لهذه الدول.
ورأى الجميع كيف زايد أردوغان على دول الجوار كافة، عندما أعلن عن استعداده لمنح النازحين السوريين الجنسية التركية، حتى من دون أن يطلبونها منه. وتتساءل الاوساط في هذا الإطار: «من قال للرئيس التركي أنّ السوريين المقيمين في بلاده بشكل مؤقّت يريدون أن «يتترّكوا»، وأن يتخلّوا عن جنسيتهم السورية»؟ غير أنّه إذا كان طرح أردوغان هذا يُخفّف من الحِمل الثقيل عن كاهل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي إذ لا يعرفون كيفية التوصّل الى حلّ لمشكلة النازحين والمهاجرين غير الشرعيين، فقد تطالب الأسرة الدولية عندها بأنّ تتمّ «لبننة نازحي سوريا في لبنان، و«أردنة» نازحي سوريا في الأردن، وما الى ذلك، حتى وإن كانت هذه الدول المعنية ترفض هذا الأمر وتصرّ على رفضه بشكل قاطع.
في المقابل، يحاول لبنان باستمرار إيصال هذه الرسالة للمجتمع الدولي بأنّه يرفض توطين النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين على أرضه الذين يصل عددهم الى أكثر من مليوني نسمة أي ما يُعادل نصف عدد سكّان لبنان. ولا يُمكن بالتالي لبلد صغير الحجم كلبنان أن يستقبل على أراضيه «غرباء» يفوق عددهم نسبة 50% من عدد سكّانه، وذلك حرصاً على هويته اللبنانية، وعدم ضياعها في توطين وتجنيس السوريين والفلسطينيين، كما على خصوصيته كبلدٍ نموذجي للتعايش المشترك في المنطقة.
فالعدد الأكبر من النازحين السوريين في لبنان هم من المسيحيين والسنّة، على ما أوضحت الأوساط ذاتها، والمسيحيون منهم قد استقرّوا في منازلٍ استأجروها في انتظار قبول طلبات الهجرة أو اللجوء الى بلدٍ أوروبي. أمّا السنّة فغالبيتهم تعيش في الخيم التي أقامتها لهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين على الأراضي اللبنانية، والتي تقدّم لهم المساعدات الشهرية، الأمر الذي يثنيهم عن العمل في لبنان كيدّ عاملة في الزراعة أو البناء أولاً، ورفض العودة الى بلادهم ثانياً. ما يعني أنّ تقديمات المفوضية لا تخدم لبنان بقدر ما تخدم طموحهم في البقاء فيه للعيش على حساب الدول المانحة، وهذا ما يجب على الحكومة أيضاً وضع حدّ نهائي له.