ما بين الحقيقة والإشاعة دعوة روسية إلى مؤتمر وطني سوري في قاعدة حميميم، ومثل ذلك دعوة أميركية إلى اجتماع معارضين سوريين في واشنطن. والمحصلة تراجع الثقة في جدوى مؤتمر جنيف السوري في دوراته المتلاحقة. لقد أثبت مؤتمر آستانة برعاته الثلاثة، الروسي والتركي والإيراني، وبحضور أميركي أشبه بالشاهد الصامت، أنه استطاع إحداث تغييرات على الأرض أسكتت إلى حد كبير أصوات الرصاص وحدّت من أعداد الضحايا ومن خراب قرى ومدن.
سبق لفلاديمير بوتين الإعراب عن تخوّفه من تحول مناطق خفض التصعيد إلى كيانات تهدد وحدة سورية. تخوّف يشبه التحذير، لكن لا أحد من كبار الإقليم والعالم يرغب في تحوّل سورية سوريات متصارعة، كل ما في الأمر أن الحل لم ينضج لأن القوى المتدخّلة لم تستكمل مناطق هيمنتها. ويمكن استقراء خريطة هذه القوى بالعودة إلى استراتيجية باراك أوباما في المشرق العربي التي لا تزال تحكم السلوك الأميركي على رغم تغريدات دونالد ترامب وتهديداته، والقوى الثلاث المعنية: إسرائيل وتركيا وإيران. وقد رأى أوباما في استرضائها، عراقياً وسورياً، ما يحقق التوازن المنشود في المشرق العربي.
أحدث التطبيقات هو استفتاء كردستان العراق الذي نصح الأميركيون بتأجيله ثم حيّدوا أنفسهم مثلما فعل الروس. وحدها إسرائيل بشخص رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، رحّبت بالاستفتاء ونتيجته، وانتهى الأمر إلى تحالف تركي إيراني أنهى مفاعيل الاستفتاء بإقفال الحدود البرية والجوية وبتشجيع زحف القوات العراقية إلى حدود الإقليم عام 2003. لقد تحالفت قوتان من ثلاثية أوباما فتحقق لهما ما تريدان ولم تستطع القوة الثالثة، إسرائيل، منعهما. وبالعودة إلى الثلاثية، فالأرجحية لتركيا لأنها تحظى بعلاقة جيدة، ديبلوماسية وغير ديبلوماسية، مع طهران وتل أبيب، في حين تقف إسرائيل وإيران على طرفي نقيض، ما يجعلهما في حاجة إلى التنسيق التركي في تقاطعات المصالح.
سينتظر السوريون طويلاً بلورة حل سياسي لحربهم «الإقليمية الدولية»، ولم تتح لهم الظروف المعقّدة، نظاماً ومعارضة، أن يعتمدوا خطاباً سياسياً قابلاً للاستمرار، فالطرفان المتصارعان، مبدئياً، مرتهنان بحلفاء يتغير خطابهم تجاه القضية السورية بحسب مصالحهم. والآن، جيش موالٍ للأميركيين في الرقة وما جاورها يأتمر بقيادة كردية علمانية، ومشروع جيش تعمل تركيا على تأليفه يعتمد سياستها كيفما تحرّكت مستنداً إلى إيديولوجية إسلامية براغماتية، وفق ما كانت أوروبا والولايات المتحدة تتصور «الإخوان المسلمين». أما جيش النظام فيستمر في رفع شعار سورية العروبة مستنداً إلى الدعم الروسي ومتحالفاً مع المسلحين الموالين لإيران على رغم خلافه الإيديولوجي معهم.
جيوش لملء الفراغ الذي خلّفه «داعش» وستخلّفه «النصرة»، وفي خلفية الجيوش مدنيون يلتقطون أنفاسهم بصعوبة ويحاولون، بعدما فاتهم قطار اللجوء إلى أوروبا وأميركا، المحافظة على حدّ أدنى من شروط الإقامة: العمل والصمت والتكيّف مع خطابات تتغير بين قوة إقليمية مهيمنة وأخرى.
رحلة سورية الطويلة نحو سلامها ستترك تأثيراً في لبنان والأردن وأكراد المنطقة. وحتى إذا أدت الأحداث إلى توسيع ثلاثية أوباما (إسرائيل وتركيا وإيران)، ستبقى تل أبيب المشكلة التي لن تجد حلاً إلاّ بسلام إسرائيلي- عربي. أنظر إلى الصدام غير الظاهر بين إسرائيل وإيران في أجواء سورية تحديداً. لقد حدّدت تل أبيب لطيرانها الحربي ممرات جوية آمنة في سورية بموافقة روسية- أميركية. وهي تشترط لسلام سورية أن تكون الخريطة السياسية والعسكرية الموعودة آمنة للكيان الإسرائيلي، بما في ذلك شمال إسرائيل- جنوب لبنان.