وراء الزيارة الهادئة، في الشكل، التي يقوم بها الرئيس باراك أوباما للمملكة العربية السعودية، صخبٌ هائل حول مسائل حسّاسة. فهناك خطوات تهدِّد باتخاذها كلّ من الولايات المتحدة والمملكة، وإذا تمّ تنفيذها، ستقع كارثة سياسية واقتصادية لن تقتصر مفاعيلها على البلدين، بل ستتجاوزهما إلى الشرق الأوسط والعالم بأسره.
الأميركيون منشغلون بمشروع القانون الذي يستاء منه السعوديون كثيراً، والمبني على 28 صفحة من تقرير لجنة تحقيق الكونغرس التي تمّ تكليفها عام 2002 بملف 11 أيلول 2001.
وحرصت الحكومة الأميركية على إخفاء مضمون هذه الصفحات التي يتردَّد أنها تضمّنت عناصر تربط ما بين منفذي الهجمات الـ19 وشخصيات أو مسؤولين في السعودية، مع الإشارة إلى أنّ 16 من هؤلاء يحملون الجنسية السعودية.
القانون الذي يدور النقاش في شأنه يعاكس القانون القائم منذ العام 1976 والذي يمنح الحكومات الأجنبية بعض الحصانة في مواجهة أيّ دعوى يتقدّم بها مواطنون أميركيون. والقانون العتيد يتيح لذوي الضحايا والمتضرّرين من هجمات جرت على الأراضي الأميركية أن يتقدموا بدعاوى ضد الحكومات الأجنبية التي تُعتبر مسؤولة عنها، ومنها هجمات 11 أيلول.
وفيما يتردَّد أنّ الرياض مقصودة بالاتهامات في بعض الأشكال، فإنّ السعوديين رفضوا هذه الاتهامات تماماً، واعتبروا أنّ الإيرانيين والإسرائيليين يقفون وراءها لتشويه صورة المملكة وضرب علاقاتها بالحليفة الكبرى.
وحمل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى واشنطن، خلال زيارته لها قبل شهرين، رسالة من الملك سلمان تحذّر الكونغرس من مغبة القيام بعمل من هذا النوع، وأبلغ الى الكونغرس أنّ المملكة ستردّ ببيع سندات خزينة وأصول تمتلكها في الولايات المتحدة تصل قيمتها إلى 750 مليار دولار.
وفعلاً، لا يريد أوباما تفجيرَ العلاقة مع السعوديين في الأشهر المتبقية من عهده. لذلك، هو يضغط على الكونغرس لتجميد إصدار القانون مدة أطول. وقال وزير الخارجية جون كيري في مجلس الشيوخ إنّ هذا القانون يشكّل سابقة رهيبة، وهو يسلبنا الحصانة ويعرِّضنا للمساءلة. لكنّ المأزق يكمن في أنّ الفريق الضاغط لإقرار القانون ينتمي إلى الحزبين الديموقراطي والجمهوري في آن معاً.
وهذا يعني أنّ الرئيس الآتي، بعد رئيس «تقطيع الوقت» أوباما، سيواجه تحدّي العلاقات مع السعودية، أيّاً يكن انتماؤه الحزبي. وربما لهذه الأسباب قال مدير الاستخبارات السعودية السابق والسفير السابق في واشنطن الأمير تركي الفيصل: «إنّ الأيام الخوالي مع أميركا قد انتهت إلى غير رجعة!».
وهناك قوى سياسية مختلفة تضغط لإصدار القانون في الكونغرس ونشر مضمون الصفحات الـ28، ومعها ذوو الضحايا والمتضرّرون. وثمّة استياء من أوباما يعبِّر عنه أعضاء في الكونغرس بسبب موقفه الرافض إقرار المشروع.
ويتزامن ذلك مع ضغوط تهدف إلى الحدّ من تحالف واشنطن مع الرياض ومدّها بالأسلحة النوعية. وقد تقدّم عضوان من مجلس الشيوخ قبل أيام بقرار يتعلق بتقنين مدّ المملكة بالسلاح الأميركي.
ويتداول المطّلعون سيناريوهات لما يمكن أن يحصل إذا أقرّت واشنطن قانوناً يوجِّه الإصبع إلى السعوديين في ملف 11 أيلول، ويسألون: هل في إمكان السعودية، وهل في مصلحتها، أن تَردّ؟
هناك مَن يعتقد أنّ الرياض ستدرس الخيارات جيِداً، وهي لن تنفِّذ الخطوات التي تلوِّح بها، لأنّ بيع سنداتِ خزينة وأصولاً بـ750 مليار دولار ليس ممكناً بسهولة من الناحية المحض اقتصادية، كما أنّ الأسعار ستكون متدنّية جداً بسبب كثافة العرض.
وسينتج عن ذلك اضطرابٌ كبير في الأسواق العالمية سيدفع ثمنه الجميع، حتى بلدان الخليج النفطية التي تُقوَّم عملاتها الوطنية بالدولار. كما أنّ الأميركيين قادرون على تجاوز الأزمة نظراً إلى الحجم الكبير لاقتصادهم، وربما يردّون بتجميد الممتلكات السعودية في الولايات المتحدة.
لذلك، وفي موازاة الحرص الأميركي على تجنّب الوقوع في فخّ التصعيد مع السعودية، فإنّ الرياض حريصة أيضاً على تغليب الجانب الإيجابي في علاقاتها مع واشنطن. ويسأل البعض: إلى أين ستذهب المملكة إذا أصيبت علاقاتها مع واشنطن بالخراب؟
لكنّ ذلك لا يمنع السعوديين من مكاشفة الحليف الأميركي بالشكوك التي تساورهم في ما يتعلق بإيران. فالرياض مقتنعة بأنّ واشنطن تنتهج سياسة تسمح للإيرانيين بتوسيع نفوذهم في الشرق الأوسط على حساب السعودية. وهذه النقطة لا يمكن المملكة أن تتهاون فيها. وهذا هو فحوى الرسالة التي أراد السعوديون إيصالها إلى أوباما خلال زيارته.
فالمطَّلعون يجزمون أنّ المملكة تغيَّرت في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وأنّ المرحلة التي كان فيها السعوديون يهرولون إلى الوساطات والتسويات، أيّاً تكن وبأيّ ثمن، قد ولَّت، لأنها هي التي ساهمت في تمدُّد النفوذ الإيراني في المنطقة.
ويتوقف هؤلاء عند مواصفات شخصيّة للملك الحالي، المعروف بصلابة المواجهة. ولذلك، يقولون، هو بادر إلى «عاصفة الحزم» في اليمن، حيث كان أعضاء من العائلة المالكة على رأس كلّ طلعة ينفّذها سلاح الجوّ هناك. والهدف من ذلك، توجيه رسالة قوية إلى الذين يعنيهم الأمر.
وانطلاقاً من هذه النظرة إلى العهد السعودي الحالي، يمكن النظر إلى الأزمة الواقعة اليوم بين واشنطن والرياض، والتي يتوقع عددٌ من المحلّلين أن تتّخذ أبعاداً تصعيدية في المستقبل، ما يترك تداعيات خطرة في البلدين ومجمل الشرق الأوسط.
والمفارقة كما يراها المراقبون هي أنّ البلد الأقوى، أي الولايات المتحدة، هي اليوم بقيادة رئيس مستقيل من الشرق الأوسط ويقوم بإضاعة الوقت انتظاراً لانتهاء ولايته، فيما البلد الأضعف أي السعودية، هي اليوم تحت قيادة عهد يكرِّس العهد الجديد (نسبياً)، ويستفيد من كلّ لحظة لوقف الترهُّل، ويستعرض القوة أمام الحلفاء والخصوم.
إذاً، في الأشهر الأخيرة من ولاية أوباما، قد تتّخذ العلاقات الأميركية – السعودية منحىً تصاعدياً، إذا لم ينجح «الحكماء» في الجانبين في حصرها إلى أن تنتهي ولاية الرئيس الأميركي.
ويعتقد البعض أنّ توقيت الأزمة حسّاس. فعندما تصبح الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات في الخريف، ربما يستغلُّ الحزبان الجمهوري والديموقراطي هذا الملف للمزايدة والمواجهة، فيكون عنصراً ضاغطاً في الحملات الانتخابية. وثمّة مَن يخشى أن ينام الملف مرحلياً ثمّ يستيقظ لينفجر الخلاف بين واشنطن والحليف العربي الأبرز، ويقوم الإيرانيون والإسرائيليون وآخرون باستثماره.
الرئيس أوباما حاول أمس أن يُطمئن السعودية إلى أمنها وأمن الخليج العربي عموماً، ووعد بأنه مستمر في التحالف معها، وأنه «لن يخون» 70 عاماً من الزواج الشرعي المثمر… على رغم الشكوك المتبادَلة. وهو أفاضَ في تقديم براءة ذمة لنفسه، إزاءَ ما يقوم به في الشرق الأوسط.
لكنّ أوباما تجاهل كلّ النقاط التي تثير الهواجس في واشنطن والرياض على حدّ سواء، والتي هي أساس الأزمة: 11 أيلول، كيف القضاء على «داعش»؟، العلاقة مع إيران، حقيقة الموقف من الرئيس السوري بشار الأسد، دور إسرائيل، والتفاهمات مع روسيا… وهذه الهواجس تَحولُ دون تثبيت دعائم «الزواج» الأميركي – السعودي على أسس متينة.
والأرجح أنّ الطرفين يحاولان تأجيل الأزمة وتجنّب المواجهة المفتوحة ظرفياً… فهل يكون الوقت «حَلاَّل المشكلات»، على الطريقة العربية؟