بعد فوز دونالد ترامب المريب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في 8 تشرين الثاني 2016 بعد حملةٍ انتخابية صاخبة أظهر فيها العداء للإسلام والتماهي مع المواقف الإسرائيلية، توجّسَ العالم، ومعه العدد الأكبر من الأميركيين خيفةً من المستقبل. وبدأت المظاهرات والاحتجاجات في معظم المدن الأميركية الكبرى ولم تهدأ.
في 20 كانون الأول 2017 تسلّمَ الرئيس الجديد دونالد ترامب مقاليد السلطة في احتفالٍ شابهُ الكثيرُ من الشكوك وعلامات الاستفهام من حضورٍ خجول وتدابير أمنيّة غير مسبوقة بعد تمنّعِ عدد كبير من الفنّانين الأميركيين عن المشاركة في المناسبة، وأعقبَه توقيف عدد من المراسلين لأهمّ وسائل الإعلام الأميركية.
بدأ الرئيس أسبوعَه الأول في البيت الأبيض وفي رأسه وهمُ إعادة مجد أميركا، فباشرَ عمله باتخاذ سلسلة من القرارات والإجراءات التنفيذيّة وفقاً لِما رَفعه من شعارات خلال حملته الانتخابية التي لم تعد مجرّد دعابة، بل كانت برنامج عمل سبقَ أن أعدَّه وأعانته عليه مجموعة من التجّار ورجال الأعمال الذين لم يختبروا السياسة من قبل.
فقرار الحظر الذي وقّعه ترامب في نهاية الأسبوع الأول من ولايته كان الأهمّ والأخطر في سلسلة الأوامر والمراسيم والتصريحات الاستفزازية التي سبقته وطاوَلت شرائح واسعة من المجتمع الأميركي، وأهمّها تخفيضٌ يَهدف إلى إلغاء قانون الضمان الصحّي الذي عُرف بقانون أوباما، والانسحابُ من معاهدة التجارة الحرّة في المحيط الهادئ، ورفضُ مبدأ التجارة الحرّة وليد الليبراليّة والذي يلتقي حوله كلٌّ من الحزبين الجمهوري والديموقراطي في البلاد، وقرارُه في بناء الجدار الفاصل على حدوده مع المكسيك للحدّ من الهجرة غير الشرعيّة وتسلُّل الإرهابيين حسب زعمِ ترامب، والذي أثارَ سخط المكسيك.
والعودة إلى قرار الحظر الذي قضى بعدم السماح للّاجئين السوريين بالدخول، والمنع الموَقّت لرعايا سبع دول ذات غالبية مسلمة، وهي سوريا والعراق وإيران واليمن وليبيا والصومال والسودان.
والعداء الظاهر للإسلام ليس مجرّد شعار عند ترامب، بل هو تسليم أعمى للدعاية الصهيونية التي تروّج على أنّ الإسلام هو الإرهاب، وهذا ما دفعَه لاتّخاذ قرارات متشدّدة تجاه المسلمين في أميركا والدول التي سبق ذكرُها. وعلى الأثر عمّت المظاهرات المدن الكبرى في أميركا وأمام المطارات الأميركيّة ومطارات أخرى في أوروبا والشرق الأوسط، نتيجةً للإهانة التي لحقَت بحقّ المسلمين ورعايا هذه الدول.
وتغطية المعاناة لهؤلاء ألهبَت الضمائرَ الحرّة وساهمت في تعبئةٍ شِبه شاملة للمجتمع المدني الأميركي، وبوقفة تضامنٍ وتنديد واسعة من منظمات الحقوق المدنيّة والجمعيات القانونية وأعضاء في مجلس النواب والشيوخ، واعتبرت مجموعة كبيرة من الحقوقيين أنّ القرار غير قانونيّ وغير أخلاقيّ ويتعارض مع الدستور والقيَم الأميركيّة ومخالف لقوانين الهجرة التي ترفض التمييز الديني أو العرقيّ.
واللافت في الأمر معارضة الديبلوماسيين وموظفي وزارة الخارجية الواسعة لاعتباره قراراً يتعارض مع جوهر القيَم الأميركيّة والدستور الذي أقسموا على حمايته. وأعلن النائب العامّ لولاية واشنطن بأنه تقدّم بدعوى تطعَن في أمر ترامب لاعتباره غيرَ دستوريّ وغيرَ قانونيّ وطالبَ بوقفِ تنفيذه فوراً.
ودعَت المعارضة الأميركية إلى سحبِ هذا المرسوم المناهض للّاجئين والمنافي للقيَم الأميركيّة، واعتبرَه آخرون بأنه قرار سياسي أكثر ممّا هو أمنيّ، ورأى عضوا مجلس الشيوخ الأميركي من الجمهوريين جان ماكين وليندزي غراهم أنّ الأمر التنفيذي لم يكن في صالح تحسين الأمن الأميركي، في حين يَعتبر ترامب أنّ قانون الحظر هو لحماية الأمن القومي.
ويرى المدافعون عنه داخل الإدارة الأميركية أنه يَهدف في النهاية إلى إلزام أنظمة الدول المستهدفة الدخولَ في تعاون أمنيّ واستخباري مع الولايات المتحدة الأميركية، ما يَمنحها أوراقَ قوة على مستوى الشرق الأوسط.
هذا من جهة، أمّا المعارضون داخل الإدارة نفسها، من جهة ثانية، فيرون أنّ هناك تدابير أكثر فعاليّة وأقلّ ضرَراً وتدعوه إلى عدم تعقيد الأمور بمجابهة الجسم القضائيّ الذي كسر قرار منعِ رعايا الدول السبع من دخول البلاد. لكنّ البيت الأبيض مستمرّ في عملية الالتفاف على القرار القضائيّ ومع تفاقمِ الأزمة السياسية والفوضى التي تَسَبّب بها ترامب نتيجة القرارات الإقصائية والتي ذهبَت به إلى حدّ اتّهام معارضيه بالخيانة وعزلهم.
وما إعفاء وزيرة العدل سالي بيتس من منصبها إلّا دليل واضح على هذه السياسة التي أدّت إلى الانقسام في صفوف الإدارة نفسِها والحزب الجمهوري الذي يدعمها، إضافةً إلى الشرخ الكبير على مستوى البلاد ككلّ، وسُجّلت اعتراضات شخصيات تاريخية مِثل مادلين أولبرايت والرئيس السابق باراك أوباما الذي اعتبر أنّ ما يجري يمسّ القيَم الأساسيّة لأميركا، ودانَ المرسوم المبني على التمييز بين الأفراد بسبب معتقداتهم أو أديانهم.
لم تقتصر المعارضة على الداخل الأميركي بل تعدَّته إلى الخارج، فسُجّلت مواقف لكلّ من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ودعا كلّ منهما الرئيس الأميركي إلى احترام مبدأ استقال اللاجئين، إضافةً إلى الموقف الصريح للبابا فرنسيس بإعلانه أنّ القرار مخالف لتعاليم المسيحية وأعرافها.
وإلى الموقف اللافت لرئيس حكومة كندا جاستن ترودو الذي أكّد فيه إرادة بلاده في استقبال اللاجئين بصرف النظر عن معتقداتهم.
ورأت بعض المنظمات الدولية في مواقف ترامب وقراراته احتزازَ رأسِ الديموقراطية في العالم وتعزيز معسكرالمتشدّين فيه. فالمواقف المشدّدة والمعارضة الواسعة في الولايات المتحدة وخارجها جعلت من الرسائل التي وجّهها ترامب فارغةً، فقرار جدار الفصل بين الولايات المتحدة والمكسيك جوبِه بالرفض من الرئيس المكسيكي وبالأسلوب الذي اعتمده ترامب. وبَلغت الأزمة الديبلوماسية ذروتَها بين مكسيكو وواشنطن.
وأدركت إيران أنّ الرسائل التي أطلقها ترامب تؤكّد أنه لا يريد حرباً مباشرة لبلاده في المنطقة، بل يريد الضغط فقط لتحسين أوراقه التفاوضية، فكان الردّ الإيراني في كلمةِ الرئيس حسن روحاني في جمهور الثورة مع المواقف الحاسمة من المرشد الأعلى ردّاً على التهديد الذي أطلقه ترامب، وذكرَ روحاني أنّ بلاده ستواجه ما يحصل بالحكمة والمنطق والصمود.
إستناداً إلى الوعود التي أطلقَها ترامب في حملته الانتخابية دعماً لإسرائيل، اندفعَت هذه الأخيرة في تنفيذ سياستها الاستيطانية وتشريع بؤرِها المشيدة على أملاك الغير في الضفّة والأراضي المحتلة التي توقّفت أخيراً نتيجة انعطافةِ ترامب وتأييدِه حلَّ الدولتين.
أمّا على صعيد نقلِ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فقد قال وزير التعاون الإقليمي لإسرائيل إنّ ترامب سيتمهّل في التنفيذ إلّا أنه سيفي في نهاية الأمر بوعوده. لكن هناك من يعزو السبب إلى الرسالة التي توجَّه بها الرئيس الأندونيسي رئيس أكبر دولة إسلامية في العالم لتهنئة ترامب والتي يقول فيها بين النصيحة والتهديد: «إنّ نقلَ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس سيعرّض سفارات الولايات المتحدة ومصالحَها في الدول الإسلامية إلى أخطار جسيمة لن يكون بمقدور أحد أن يمنعَها».
فالمواقف المتسارعة والفوضى التي تَميَّز بها الرئيس الأميركي الجديد أضاعت الأولويات؛ قتال «داعش» ودعمُ قوات «سوريا الديموقراطية»، ومعاداة إيران والتواصل مع بعض زعماء العرب وتحسين العلاقات الروسية – الأميركية، ومهاجمة الحلف الأطلسي والتراجع عنه وإهانة رئيس الحكومة الأوسترالية والاعتذار منه، ومهاجمة الصين والعودة إلى الاعتراف بالصين الواحدة والتخلّي عن حماسه لتيوان.
أمّا على الصعيد الداخلي، فقد اعتمد ترامب سياسةً اقتصادية خاصّة عُرفت بـTrumponomics والتي يرى فيها مصرفيون أنّها ستعمل على إنعاش القوة الشرائية في السوق وستدعم النمو الأميركي وتُحقّق تقليلَ العجز في ميزان المدفوعات، وفي الوقت نفسه أثارت جدلاً في وسط رجال الأعمال وأعضاء في الحزب الجمهوري، الذين رأوا أنّ لهذه السياسة تداعيات خطيرة وردود فِعل قاسية من الصين ودول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الانقسام الحاد في الشارع الأميركي والمظاهرات المناوئة لسياسته التي قد تتطوّر وتُعرقل خططه الاقتصادية.
لم يولِ ترامب أيّ اهتمام بإصلاح الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي داخل التركيبة السياسية ونظام السلطة، وانخرَط فيه بشكل سلِس على حساب الدستور الذي كان أوّلَ الضحايا، فلا حرّية ولا مساواة ولا عدالة، وغاب عن بال ترامب وأعوانه أنّ مبدأ أميركا أولاً الذي يعتنقه لن يعيد إلى أميركا عظمتها من جديد. فابتعاده عن الدستور الذي خطَّه توماس جفرسون وجون آدمز وغيرهم، وعن وصيّة الرئيس جورج واشنطن، سيجعل من (أميركا عظيمة) بعيدة.
لقد أضاف ترامب خلال فترة وجيزة من ولايته إلى مشاكل أميركا الداخليّة تعقيدات قد تُهدّد وحدةَ الدولة والشعب التي هي الآن واهية ومنقسمة على ذاتها، تعاني من مشاكل خطيرة ومدمّرة لمستقبل أميركا، وأهمّها على سبيل المثال لا الحصر التمييز العنصري المبني على اللون والدين والمعتقد والفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء وآفات المخدرات والجريمة المنظّمة وسيطرة اللوبي الصهيوني على مراكز القرار وتأثيره اللامحدود على السياسة الخارجية للدولة، والهجرة غير الشرعية وغيرها، التي تجعل من قدرات الولايات المتحدة الهائلة وهي الدولة الأولى في العالم عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً والتي لا تُهزم، عرضةً للاهتزاز.
فاستحالة سقوط أميركا من الخارج لا تحميها من الانهيار الداخلي إذا استمرّت سياسة ترامب على ما هي بقطعِ روافد التجدّد بقرارات الحظر والمواقف المتقلّبة بين ليلة وضحاها والتي ستُعجّل بإعلان نهاية هذه الأمّة العظيمة بعد ثلاثة قرون كانت تتجدّد بموجات المهاجرين الوافدين إلى الأرض الجديدة، وبينهم أجداد ترامب الألمان ووالدته الاوسكتلندية وزوجته السلوفانية. وبذلك ستفقد الولايات المتحدة سرَّ قوّتِها، ليتحقّق قول موتسيتنغ فيها إنّها نمرٌ مِن ورَق، أي عملاق عاجز.
من هنا نرى أنّ مصلحة الشعب الأميركي العظيم الذي أجاز له الدستور استخدام كلّ الوسائل لحماية الأمّة الأميركية ومنعِها من السقوط، قد تَجعله يبادر إلى سحبِ رخصةِ القيادة المشكوك في شرعيتها من ترامب وإعادةِ القطار الأميركي إلى سكّة الأمان. كما قد يكون على غير الأميركيين التأنّي وعدمُ الاستعجال للمجازفة وركوبِ قطار ترامب، والانتظار حتى جلاء الموقف، وقد يكون قريباً.
وإلى من شَملهم الحظر توجيه تحية وإكبار لمعارضي ترامب من الأميركيين، لعلّ في أيديهم خلاصُ أميركا والعالم.